(قد تكون الأيدي التي فجرت في غزة فلسطينية، وقد تكون “حمساوية” أو “فتحاوية”، لكنها بالتأكيد لا يمكن أن تكون قد نفذت بأمر من أي صاحب قرار فلسطيني، ومن يعرف تاريخ الاغتيالات الفلسطينية يدرك ذلك تماما)
بقلم نقولا ناصر*
إنها لمفارقة لافتة أن تتحول الذكرى السنوية لاستشهاد ياسر عرفات إلى مناسبة للنفخ في رماد الفتنة التي استهدفت إشعالها التفجيرات ضد قادة فتح ومنصة إحياء ذكرى الرئيس الراحل في غزة الأسبوع الماضي لتوسيع شقة الخلاف الفلسطيني بينما الحرص على الوحدة الوطنية هو من أهم معالم إرثه السياسي.
وما أحوج كل المعنيين اليوم لاستلهام هذا الإرث السياسي للرئيس الراحل.
في زيارة تضامنية مع قرية المغيّر بالضفة الغربية التي أحرق المستوطنون أحد مساجدها يوم الأربعاء الماضي بحماية جنود الاحتلال ذكر المدير بوزارة الأوقاف كامل أبو عليّا أن الوزارة وثّقت عشرين اعتداء مماثلا على مساجد الضفة منذ عام 2011.
ومن الواضح أن الاحتلال عندما يستهدف المساجد إنما يستهدف رموزا راسخة للوحدة الوطنية والشعبية. فالجوامع تجمع ولا تفرّق، ففيها يجتمع على قلب واحد وفي صف واحد مع أبناء شعبهم أبناء كل فصائل النضال الوطني الذين يختلفون خارجها.
فالاحتلال لم يدخر في السابق ولا يدخر الآن أي وسيلة في جعبته لشق الصف الوطني الفلسطيني. وإنها لمفارقة كذلك أن تتحول تلك التفجيرات إلى مناسبة لاستقطاب فصائلي يقدم هدية مجانية للاحتلال بتفجير حرب كلامية تفرق الصف الوطني وهو في أمس الحاجة إلى الوحدة، وإلى مناسبة تحرف البوصلة الوطنية بعيدا عن القدس التي كانت بوصلة عرفات الوطنية حتى آخر رمق من حياته.
ويلفت النظر أيضا أن طرفي الخلاف في حركتي فتح وحماس يتفقان على إدانة تلك التفجيرات ويتفقان على “نفي” الاتهامات المتبادلة بالمسؤولية عنها وعلى ضرورة الإسراع في التحقيق فيها.
أين المشكلة إذن في اتفاق الطرفين على تأليف لجنة تحقيق مشتركة تضم ممثلين عن الفصائل الأخرى، وبخاصة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، ومستقلين من المجتمع المدني تتعهد بنشر نتائج تحقيقها كحق للشعب في معرفة الحقيقة، ولماذا لا يكون تأليف لجنة مشتركة كهذه آلية جديدة لتعزيز المصالحة الوطنية ومنع انهيارها وبداية تضع نهاية للحرب الكلامية التي اندلعت قبل أن تستفحل؟
وفي هذا السياق عندما يقول الرئيس الفلسطيني محمود عباس إنه لا يريد “تحقيقا منهم”، ويقصد حماس، من دون أن يقترح بديلا للتحقيق فإنه لا يساعد في الكشف عن الحقيقة التي يحرص شعبه على معرفتها قبل الحركتين بعد أن تعب من الخلاف بينهما.
لكن المفارقة المفجعة تكمن في الاستنكاف عن توجيه الاتهام إلى المستفيد الأول والأخير في نهاية المطاف، وهو الاحتلال ودولته، بينما يكفي تسليط الأضواء الوطنية في حد ذاته على هذا المستفيد لاحتواء المضاعفات الخطيرة للتفجيرات على الوحدة الوطنية ويكفي أيضا لكشف حقيقة وجود طابور من المتضررين من إنهاء الانقسام في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر على حد سواء ممن للاحتلال مصلحة في أن يستغلهم كأدوات تخدمه بوعي منهم أو من دون وعي وهو طابور يحاول وضع العصي في عجلات المصالحة الوطنية دفاعا عن مصالحه.
فأن تكون الأيدي التي نفذت التفجيرات فلسطينية لا يحجب حقيقة المستفيد الأول والأخير منها.
وتأتي المعركة الكلامية التي فجرتها تلك التفجيرات لتهدد المصالحة الوطنية قبل أن يشتد عودها في تزامن مع تصعيد الاحتلال لعدوانه على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، بتعزيز قواته في الضفة الغربية، وتشديد إجراءاته القمعية، واقتراح مضاعفة الميزانية المخصصة للاستعمار الاستيطاني، ناهيك عن مصادقة حكومة الاحتلال يوم الأحد الماضي على مشروع تشريع بفرض قانون دولة الاحتلال على المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية، أسوة بشرقي القدس والجولان العربي السوري المحتل، ما يعني ضمها عمليا إلى دولة الاحتلال.
إن تاريخ الفتنة يكاد يتكرر، ففي بيان لها، دعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حركتي فتح وحماس إلى “ضبط النفس واليقظة حيال ما يحاك من مؤامرات ضد الشعب الفلسطيني” وحذرت “من الوقوع في الشرك الإسرائيلي لتفجير الساحة الفلسطينية” وطالبت ب”منح جهات الاختصاص والجهات السياسية المعنية الوقت الكافي لكشف خيوط الجريمة” …
لكن هذا البيان الذي ينطبق على الحالة الراهنة كانت “الشعبية” قد أصدرته في تموز / يوليو عام 2008 عندما استشهد أربعة من قادة كتائب عز الدين القسام في تفجير على شاطئ غزة فسارعت حماس لاتهام فتح وسارعت هذه إلى تحميل المسؤولية ل”تصفية داخلية في حماس”. وما أشبه الليلة بالبارحة، فحركة فتح اليوم تتهم حركة حماس بتفجيرات غزة لترد حماس عليها بأنها نتيجة صراع داخلي في فتح، وليخرج الاحتلال وحكومته أبرياء!
إن المسارعة إلى الحكم بالإدانة وتحميل المسؤولية عن التفجيرات قبل أن يتبدد دخانها إلى هذا الطرف أو ذاك لا يمكن إلا أن تثير الشك في وجود دوافع سياسية وراءها وهي لا تساهم في كشف الحقيقة.
ومثل هذه المسارعة في الإدانة تذكر بمثيلتها في توجيه الاتهام لسوريا باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الشهيد رفيق الحريري قبل أن يجف دمه، فقد كان واضحا لكل ذي بصيرة أن سوريا لم يكن من الممكن أن تقدم على جريمة كهذه وهي تدرك قبل غيرها أنها سوف تكون المتضرر الأول منها. واليوم لا يمكن أن تكون حماس أقل وعيا بعد تجربتها السياسية الطويلة بأنها سوف تكون المتضرر الأول من تفجيرات غزة.
قد تكون الأيدي التي فجرت في غزة فلسطينية، وقد تكون “حمساوية” أو “فتحاوية”، لكنها بالتأكيد لا يمكن أن تكون قد نفذت بأمر من أي صاحب قرار فلسطيني، ومن يعرف تاريخ الاغتيالات الفلسطينية يدرك ذلك تماما، وهي في أحسن الأحوال قد تكون نفذت جريمتها بدافع من مصلحة خاصة، أو استخدمت باستغلال مصالحها الخاصة، غير أن النتيجة في كل الأحوال لا تصب في أي مصلحة فلسطينية فصائلية أو غير فصائلية، بل تصب في خدمة الاحتلال ودولته فقط، فالدافع والمستفيد ليسا وطنيين بالتأكيد لكن المتضرر قطعا هو الشعب الفلسطيني ووحدته الوطنية.
إن الطابور الخامس المستفيد من الانقسام الفلسطيني والمتضرر من إنهائه لا يزال ينتهز الفرص لإجهاض المصالحة الوطنية ولا بد أنه قد وجد في تفجيرات غزة فرصة مواتية للنفخ في رماد الفتنة مجددا، مدركا أو غير مدرك للخدمة المجانية التي يقدمها للاحتلال إذا افترض المراقب حسن النية، أما إذا افترض سوء النية فإن هذه الخدمة قد لا تكون مجانية.
ولا يحتاج هذا الاستنتاج إلى كثير من الجهد والاجتهاد، لكن البناء عليه باحتواء المضاعفات غير الوطنية للتفجيرات يحتاج بالتأكيد إلى جهد كبير واجتهاد أكبر لمنع الحرب الكلامية من الاستفحال إلى ما لا تحمد عقباه، لانقاذ المصالحة الوطنية من الانتكاس، ومعها عملية إعادة إعمار قطاع غزة، وحكومة الوفاق الوطني، ومن أجل إعادة التركيز على رص الصفوف الوطنية في مواجهة العدوان المتواصل للاحتلال على الشعب وأمنه ومقدساته والتركيز على المعركة السياسية التي تخوضها الرئاسة الفلسطينية على الصعيد الدولي.
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com