تواضُع الكبار – بقلم رامز رباح

بقلم الشيخ رامز رباح

بسم الله الرحمن الرحيم
ما زلت أذكر جيداً، ولا يمكن أن أنسى تلك الأوقات التي كنت أزور بها بيت صديق الطفولة، الأخ صالح كمال كنج أبو صالح. كنت وقتها يافعاً، أدخلُ ذلك البيت الكريم فيستقبلنا والده المرحوم الشيخ (أبو مجد كمال كنج) ببسمته العريضة ووقاره ورزانته، ويبادر لسؤالي عن والدي وأخوتي وأحوالنا المدرسية. كنا نتقصد سؤاله عن أي أمر يخطر على بالنا، لنستمتع بسرده وحديثه الوافي الكافي الشافي الراقي الرقيق الدقيق الشيّق، فكان يحدثنا عن المعلومات التي نطلبها منه بالفصحى، بأسلوبه المُعجِز الرائع، بحيث يبسّط لنا الأمور وينزل إلى حيث نحن ويحدثنا مطولاً، لنفهم كل كلمة يقولها، بطريقة يصعب أن تجد من يقدر إيصال الرسالة مثله. وكان يجذبنا إليه بحركة يديه ونبرة صوته وسكينته وانفعاله وهدوئه، بحسب نوع الحديث، لتشعر كأنك تعيش الحدث نفسه. كما لا زلتُ أذكره ببدلته الرسمية وهو بكامل أناقته وترتيبه مع ربطة العنق، وكل بدلة لها مسبحتها الخاصة عند العم الغالي الجليل المثقف المتواضع الشيخ أبي المجد.

كنت أفخر كثيراً عندما يصادفني في الطريق العام فيسلِّم عليَّ وعلى رفاقي الأطفال وكأنني زميله، وكان يسألنا عن أمورنا بكل تواضع، فنشعر بشموخ وعزة نفس وكبرياء. فصديقنا الذي يسأل عن أحوالنا ويتفقد أمورنا، زعيم منطقة الجولان وأول شخصية وطنية اجتماعية في مجدل شمس ومنطقة إقليم البلان. وكنا نسمع من أهلنا بأنه كان عضواً في مجلس الشعب السوري، وله مكانته المرموقة المميزة على مستوى الطائفة المعروفية ودولتنا السورية. وقد حدثني أخي وصديقي، الشيخ أبو بيان إسماعيل فرحات، من بقعاثا، عن سلوكه الراقي عندما كان يتعلم بالقدس في أواخر سبعينيات القرن الماضي برفقة نجله البكر مجد كنج، فكان المرحوم يزورهما هناك ويفتتح زيارته بزيارة الأخ أبي بيان ويقول له، “ابعث إلى مجد ليأتي إلى هنا”، فهو كان يعتبر نفسه أباً ووالداً لكل الجولانيين، خصوصاً في الغربة، ولا يقبل إلا أن يبقوا برفقته، ويعزمهم ويكرمهم عندما تأتي الشخصيات المرموقة بالقدس، أمثال السيد فيصل عبد القادر الحسيني، للسلام عليه ودعوته إلى بيوتهم.
وكنت أسمع من شيخنا الجليل أبي علي حسين الحلبي، من دالية الكرمل، عن إعجابه الشديد بخطاباته الارتجالية المميزة النادرة التي كانت تحرك مشاعر الناس، فلا يشعرون بالوقت مهما أطال بخطبته، وذلك لصدقه وإخلاصه وبراعته ومقدرته وتعبيره بكل شجاعة، حيث كان لا يخشى بمواقفه وخطاباته الموزونة المؤثرة لومة لائم. وقد أخبرني أحد التقات، أنه قَدِم إليه أخوان من منطقة الشاغور في الجليل ليخبرانه أن والدهما الذي على فراش الموت، أوصى أن يكون كمال كنج أبو صالح من مجدل شمس الخطيبَ يومَ مأتمه، فقبل خاطرهما. وعندما توفى والدهما، ألقى الشيخ كمال كلمة ارتجالية مؤثره في الجنازة، تحدث بها عن حق الشعب الفلسطيني، الأمر الذي حدا بجريدة “يديعوت أحرنوت” إلى كتابة مقال لها في اليوم التالي، بعنوان “كمال كنج يعود إلى السياسة”، ما دفع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى فرض الإقامة الجبرية عليه لمدة ستة أشهر.
المرحوم الشيخ أبو مجد كمال كنج أبو صالح مِن مواليد مجدل شمس عام 1911. أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة القرية. وبحكم كونه ابن أحد المجاهدين، فقد حصل على منحة تعليمية في إحدى الكليات العربية بمدينة القدس، التي تعطي مِنحاً دراسية لأبناء المجاهدين والشهداء. فوالده هو المجاهد الكبير أسعد كنج أبو صالح، المتوفى عام 1963.
التحق بالكلية العربية الوطنية في مدينة بيروت، وبعد تخرجه التحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق. وترشح للانتخابات الديمقراطية النيابية السورية، وفاز في تموز 1947 بتمثيل قضاء وادي العجم (ريف دمشق، إقليم البلان، وشمال الجولان) لمدة أربعة أعوام.
في عام 1967، أثناء احتلال إسرائيل الهضبة السورية، بادر وعدد آخر من شيوخ وزعماء البلدة لإقناع السكان بالبقاء داخل منازلهم وعدم مغادرتها، باعتبارهم ذاقوا ويلات التشرد أيام الثورة السورية الكبرى.
داهمت السلطات الإسرائيلية منزله ليلة 8/10/1970 وعثرت على بندقية “كلاشينكوف” وثلاثة مسدسات، واعتقلته برفقة ضابط في الجيش السوري (نزيه توفيق أبو صالح) وأحالته إلى المحكمة العسكرية في مدينة القنيطرة المحتلة، حيث وجهت له 19 تهمة. وقد تنقّل بين مراكز التحقيق في كل مِن الجاعونة والجلَمة وعكا، حيث صدرت بحقّه أحكام بلغ مجموعها 300 عام، على أن يُنفّذ منها فعلياً 23 عاماً. وبينما كان في سجنه، طلب منه أحد سجانيه أن يساعده بمعلومات تاريخية لوظيفة جامعية يقوم بها، فذهل بعد أن سرد له المعلومات الثمينة عن ظهر قلب، بأسلوبه المميز النادر.
بعد مضيّ أربع سنوات على اعتقاله، أفرجت السلطات الإسرائيلية عنه، في إطار عملية تبادل أسرى تضم عسكريين سوريين ولبنانيين، من ضمنهم الضابط أدهم علوان، مقابل أربعة طيارين إسرائيليين كانوا قد وقعوا أسرىً في أيدي الجيش السوري، ولم توافق الحكومة الإسرائيلية بداية على أن تشمل قائمة التبادل اسم كمال كنج أبو صالح، إلا أن الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد رفض التبادل إنْ لم يُفرج عن المناضل الكبير كمال كنج أبو صالح، حيث قال بالحرف الواحد: “إذا ما في كمال كنج أبو صالح ما في تبادل على الاطلاق”، الأمر الذي أدى إلى تعثّر المفاوضات لبضعة أشهر، بعد رفض الحكومة السورية مبادلة الطيارين إن لم تشمل قائمة الأسماء اسمه واعتباره أسير حرب، إلى أن اضطرت إسرائيل القبول مشترطةً مغادرته الجولان نهائياً، الأمر الذي رفضه بنفسه أمام مندوب الصليب الأحمر الدولي. وكان الرئيس السوري تركَ له حرية الاختيار، بين البقاء في الجولان أو القدوم إلى دمشق، حيثُ أُبلِغ أنه تم تعيينه وزيراً في الخطوط الأمامية، إلا أنه، وإدراكا منه لواجبه الوطني، اختار البقاء في الجولان، متخلياً عن كافة إغراءات المناصب من أجل استكمال مشروعه النضالي.
وقد قال خلال عملية تحريره “الجولان بحاجة إلى أشخاص وناس، وإنني أعتبر دوري بالحفاظ على الموقف الوطني لم ينته بإطلاق سراحي من المعتقل الإسرائيلي، وواجبي أن أبقى هنا في بلدي لنكون بالمرصاد لإفشال كافة المخططات الإسرائيلية المستقبلية”.
تابع بعدها نشاطه الوطني، فاعتقلته السلطات الإسرائيلية إداريا عام 1981 لمدة ستة أشهر، وكذلك بتاريخ 13/2/ 1982 لذات المُدّة أيضاً. وفي اليوم التالي، الرابع عشر من شهر شباط 1982، أُعلِن الإضراب العام والمفتوح في الجولان المحتل، الذي كان أحد شروطه الإفراج عن المعتقلين الإداريين، وكان يومها واحداً منهم.
وكان تعرّضَ في معتقله الإسرائيلي إلى مضاعفات صحية خطيرة نتيجة الظروف الاعتقالية السيئة وتقدمه في السن، حيث أُدخِل على إثرها إلى مستشفى سجن الرملة، جرّاء معاناته من تصلب في شرايين القلب، حسب ما أكدت التقارير الطبية.
أطلق سراحه ورفاقه، مِن المعتقلين الإداريين، في تموز عام 1982، ليتوّج مع أبناء شعبه أحد أهم فصول المسيرة النضالية في الجولان المحتل، وذلك عقب الفشل الذريع الذي منيت به سياسة القبضة الحديدية لسلطات الاحتلال في الجولان، واستقبله الأهالي بعد تحرره كما يليق بالمناضلين الأبطال.
بتاريخ 15/9/1983، وبعد تدهور حالته الصحية نتيجة الضغط النفسي والصحي والجسدي الذي رافق عمله الوطني والاجتماعي والسياسي، أصيب بنوبة قلبية أُدخِل على إثرها المستشفى، حيث فارق الحياة تاركا وراءه سجلاً ناصعاً من النضال والعطاء.
أقيمت للشيخ أبي المجد مراسم تشييع شعبية ورسمية في الجولان والوطن الأم سوريا على خط وقف إطلاق النار شرقي مجدل شمس، شارك فيها الآلاف، وعلى رأسهم سيد الجزيرة المرحم سيدنا الشيخ امين طريف، كما حضر مراسيم التشييع رئيس المجلس الوطني الفلسطيني السابق خالد الفاهوم، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وممثلاً عن رئيس الجمهورية العربية السورية الوزير عبد الكريم عدي، وجماهير غفيرة من محافظات دمشق والسويداء والقنيطرة.
رحمه الله.

تعليقات

  1. رحم الله الشيخ ابا مجد وعطر ذكراه بعبق الياسمين ، لا شك أن المرحوم كان علما من أعلام الطائفة ومهما قيل في مناقبه من حميد الخصال يبقى قليلا، وأنا شخصيا سمعت عنه الكثير من عمي المرحوم أبي وحيد ، طيب الله ذكرى الشيخ كمال كنج أبو صالح وأنعم على ذويه ومحبيه بوافر أنعامه انه سميع مجيب .

التعليقات مغلقة.

+ -
.