جرجي زيدان رائد التمثيل السردي للتاريخ

أصدر جورجي زيدان (1861-1914) ثلاثاً وعشرين رواية في غضون ثلاثة وعشرين عاماً. بدأ تلك السلسلة الطويلة بـ «المملوك الشارد» في عام 1891، وختمها بـ «شجرة الدر» في عام وفاته. وكان يمخض قدراته كل شهر لإشباع حاجة مجلة «الهلال» إلى درجة أنه لم يكن يعرف من رواياته التي يكتبها إلاَ خطوطها العامة، فهي أمشاج تتركب في لحظة الكتابة، فلا غرابة أن تفتقر للتماسك السردي، وتغيب عنها الحبكات المُحكمة، ولا تعرف الشخصيات النامية إنما النمطية؛ فالغاية منها تمثيل التاريخ سردياً برؤية تقوم على ثنائية الخير والشر، وليس ابتكار الأحداث والشخصيات على وفق مقتضيات الصناعة السردية الحديثة.

ظهرت تاريخيات زيدان لتقدم أول سلسلة شبه متكاملة، تقوم على تمثيل سردي تاريخي للأحداث العربية-الإسلامية منذ العصر الجاهلي إلى الانقلاب العثماني في نهاية العقد الأول من القرن العشرين، وعلى رغم أن العمر لم يسعف المؤلف بإكمال السلسلة، فظلت بعض العصور من دون تغطية، إلا أنه كان يعلن باستمرار أنه في سبيله لإعادة تفريغ التاريخ العربي-الإسلامي من مظانه الكبرى وتقديمه مبسطاً ومتتالياً.

بعد أن أتم سبع روايات تاريخية وجد زيدان أنه من اللازم عليه تقديم تفسير لطبيعة الكتابة التاريخية-السردية لديه، وبذلك استنبط القانون العام الذي سار عليه، جاء ذلك في عام 1902 ضمن المقدمة المهمة التي وضعها كمدخل لرواية «الحَجاج بن يوسفَ الثقفي»، وبين فيها تصوره لمجموعة من القضايا، ومنها وظيفة الرواية التاريخية عنده، ووظيفتها عند الكتاب الأوروبيين، ووظيفة الحكاية الفنية داخل النص، وأخيراً كشف النقطة الأساس في كل مشروعه الروائي، وهي عد رواياته مرجعاً، شأنها شأن كتب التاريخ، فقال: «رأينا بالاختبار أنَ نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته، والاستزادة منه، وخصوصاً لأننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه، كما فعل بعض كتبة الإفرنج. وفيهم مَن جعل غرضه الأول تأليف الرواية، وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة، فجره ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث التاريخية بما يضل القراء. وأما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ، وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقاً للمطالعين. فتبقى الحوادث التاريخية على حالها، ندمج فيها قصة غرامية، تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيصح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيثُ الزمان والمكان والأشخاص، إلا ما تقتضيه القصة من التوسع في الوصف مما لا تأثير له على الحقيقة».

التبست الفوارق في ذهن زيدان بين التاريخ باعتباره وثيقة لإثبات الحقائق، والسرد بوصفه وسيلة لتشكيل الأحداث المتخيلة، وكان إحساسه بتلك الفوارق باهتاً، فلم يظن أنه بوساطة السرد سينزلق ترتيب الأحداث ودلالتها إلى سياق غير سياقها، وإعادة تشكيلها لن يحافظ على أبعادها الموضوعية أو شبه الموضوعية، فانتهى به عمله إلى الانقسام على نفسه. ففي الوقت الذي أراد فيه أن يجعل «التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كَتبة الإفرنج»، لم يألُ جهداً في بث المواعظ الاعتبارية المتعددة الأبعاد والأغراض في تضاعيف رواياته، وبذلك كان يستخلص عبرة من أحداث التاريخ الذي غادر ميدانه كسلسلة من الوقائع المتضافرة، وأعيد تركيبه ليكون مصدر عظة، في حين كان يريده أن يكون مرجعاً.

لكن زيدان سرعان ما قام بتعديل الوظيفة الخاصة بالرواية التاريخية كما فهمها وكتبها، وبدا في تعديله أقل تشدداً مما صرح به من قبل، حينما قال: «لا نريد بالرواية التاريخية أن تكون حجة ثقة يرجع إليها في تحقيق الحوادث وتمحيص الحقائق، ولكننا نريد أن تمثل التاريخ تمثيلاً إجمالياً بما يتخلله من أحوال الهيئة الاجتماعية (المجتمع) على أسلوب لا يستطيعه التاريخ المجرد إذا صبر الناس على مطالعته. فإذا جردت روايتنا من عبارات الحب ونحوه كانت تاريخاً مدققاً يصح الاعتماد عليه، والوثوق به، والرجوع إليه، وإن كنا لا نطلب الثقة بها إلى هذا الحد، وإنما نعرف لها مزية هي تشويق العامة لمطالعة التواريخ باطلاعهم على بعضها على سبيل الفكاهة».

وذهب زيدان إلى أكثر من ذلك حينما فصل وظيفة الرواية التاريخية بشكل عام، فقال: «بالروايات التاريخية نهيئ الناس لمطالعة التواريخ، وإن يكن في تأليف الرواية من المشقة أضعاف ما في تأليف التاريخ مع ظهور فضل مؤلف التاريخ أكثر من ظهور فضل مؤلف الرواية، ولكن غرضنا الفائدة العامة وأقرب الطرق إليها من حيثُ التاريخ الطريقة القصصية التي نحن سائرون فيها. زد على ذلك أن لهذه الطريقة في نشر التاريخ مزية لا تتأتى لنا في التواريخ المحضة، نعني بها تمثيل الوقائع التاريخية تمثيلاً يشخص تلك الوقائع تشخيصاً يقرب من الحقيقة، تتأثر منه النفس فيبقى أثره في الحافظة، فضلاً عما يتخلل ذلك من بسط عادات الناس وأخلاقهم وآدابهم، مما لا يتأتى بغير أسلوب الرواية إلا تكلفاً».

اهتدى زيدان، في تاريخياته، بالموروث السردي القديم الذي جهزه بالنسق الدلالي العام القائم على الاستقطاب الثنائي المتضاد بين الفضائل المطلقة والرذائل المطلقة، فهو يضع شخصياته في منازعة أخلاقية أولية قوامها مناصرة الخير ومعاداة الشر، ويفصلها على أساس الطبائع الثابتة، ولا يدخل تغييراً يذكر عليها إلى النهاية، إذ تظهر وتختفي وهي حاملة لطبائعها القارة، فكأن الخير والشر ليسا مفهومين زمنيين، إنما هما طبعان لهما ثبات مطلق. ولم يسمح بالتحول من هذا إلى ذاك، فشخصياته نماذج مقفلة في مسارين لا تخرج عنهما؛ لأنَ التداخل والتحول سيفسد ثبات النسق الأخلاقي.

أضفى الانقسام الدلالي والحكائي، أي الانقسام الخاص بالقيم والآخر الخاص بالمناوبة بين المادة التاريخية والتخيلية، نسقية ثابتة على روايات زيدان، فكان مثار نقد تقدم به نخبة من الدارسين، منهم «المازني» الذي قال: «إن الحكاية عند جورجي زيدان مشوشة مضطربة؛ لأنه لم يتولها بروية، ولم يتعهدها بنظر وتدبر… وهو لا يحلل أخلاق أبطاله، ولا يشرح لك شخصياتهم… ولم يعنَ بتمييزهم، كما لم يعنَ بالقصة (الحكاية) ولم يعنَ باللغة». ثم شوقي ضيف الذي رأى أن رواياته ليست روايات بالمعنى الدقيق «إنما هي تاريخ قصصي تدمج فيه حكاية غرامية، وهو تاريخ يحافظ فيه الكاتب على الأحداث من دون أي تعديل، ومن دون أي تحليل للمواقف والعواطف الإنسانية». وسهيل إدريس الذي فصل الأمر بوضوح أكثر، مبيناً مظاهر الضعف المتوطن فيها، لأن «تحليل نفسيات الأبطال يكاد يكون معدوماً، فهو يبدأ بإعطاء صفات الشخصيات التي تقوم بالأدوار الرئيسية، وهي صفات عامة لا يراعى فيها الشعور البشري المتقلب، وإنما يحتفظون بأخلاقهم وعاداتهم إلى النهاية، ثم إنه يحرص على وصف جميع أبطاله، وكشف الستار عن شخصياتهم وصفاتهم بحيث إن حس المفاجأة لدى القارئ يصاب بضربة، فيتنبأ بكل شيء ويزهد بالقراءة. ثم إنَ تعليقات المؤلف وعظاته ودروسه تبدو نابية في سياق السرد، من غير أن تشرح شيئاً».

انصرفت هذه الملاحظات الانتقادية إلى المظهر السردي لروايات زيدان، ولكنها لم تحجب التقريظ الواضح للمظهر الأسلوبي فيها، فقد وصفه رشيد يوسف عطا الله وهو من معاصريه، بأنه «كان يرسل لفظه مسوقاً للمعنى المطلوب، من دون تكلف أو صنعة»، فيما أكد مارون عبود أنه «كان يرسل عبارته على السليقة بلا تكلف ولا تصنع». وكل هذا سيفضي بنا إلى القول بأن كل رواياته إنما هي تنويع محدود لحبكة واحدة، ولا يقود تغير نوع الأحداث وزمانها ومكانها وشخصياتها إلى تغيير في نظام العلاقات السردية في ما بينهما، فهنالك نسق تكراري مغلق في البناء والدلالة. إذ تظهر الشخصيات حاملة لأفكار وملامحَ وأفعال لا تعرف التغير، وهي تصور منذ البدء على أنها أنموذج فكري وأخلاقي، وليس إنسانياً. وكل الأحداث إنما تُنضد لدعم خصائص النموذج فتجعله في تضاد مع أنموذج مناقض.

لاقت السلسلة التاريخية التي كتبها زيدان صدى طيباً لدى المتلقي، وظلت لمدة طويلة تحظى بالاهتمام، وامتصت رحيق الموضوع التاريخي، فانتهت بها الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث، والمحاولات التي جاءت بعد ذلك ظلت إلى حد بعيد تدور في الأفق البنيوي والدلالي لها، لأنها ظهرت تلبية لحاجة أخلاقية وثقافية تريد نوعاً من معرفة الماضي، وبتوافر البدائل انحسرت الظاهرة نفسها؛ لأنها غيرت ترتيب المكونات، فبدل أن تتحرر من قيد المادة الوثائقية، فتجعلها مرجعية للتفسير والفهم، جعلتها الهدف الأول، وذلك أمر لا يستقيم مع التمثيل السردي بدلالته الفنية، فكان أن جرى تحديث لوظيفة الرواية التاريخية، ومادتها السردية، فاتخذت منحى جديداً يشمله مصطلح «التخيل التاريخي» وليس «الرواية التاريخية».

*خلاصة بحث بالعنوان نفسه قدم في مؤتمر»جورجي زيدان: الماضي في عهدة الحاضر» الذي أقامته أخيراً جامعة البلمند في لبنان بين 15-17 /5/2014

+ -
.