تواصل إيطاليا تعزيز رقمها القياسي في تغيير الحكومات بعد الإعلان عن التشكيلة الحادية والستين منذ تأسيس النظام الجمهوري عام ١٩٤٦، والتي توزعت حقائبها، للمرة الأولى، مناصفة بين الرجال والإيطاليات، وليس من مؤشر على أن الإصلاحات التي ينتظرها الإيطاليون ويعد بها السياسيون منذ ثلاثين عاماً ستتحقق هذه المرة، على رغم الآمال الكبيرة المعقودة على الرئيس الجديد ماتّيو رنزي ذي الأربعين سنة. (للمزيد)
ومنذ بداية العام الماضي والأضواء مسلطة على رينزي الذي اشتهر بصعوده الخاطف وبحيوية دافقة في بلد جعل من الهوينى أسلوباً ومسلكاً في معترك سياسي شديد التعقيد ومحفوف بكل أنواع المحاذير.
لم يكن مفاجئاً وصوله منذ شهور إلى زعامة الحزب الديموقراطي الذي تنضوي تحت لوائه تيارات وحركات من الوسط واليسار المعتدل تتناحر باستمرار وتنهشها منافسات وصراعات شخصية أتاحت لسيلفيو برلوسكوني أن يتصدر المشهد السياسي الإيطالي على مدى عشرين عاماً تميّزت بتراجع اقتصادي وإداري مضطرد، وضع البلاد على شفا انهيار مالي وصدام اجتماعي يتفاقم على وقع الفساد وإفلاس الطبقة السياسية من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها. لكن خطوته الأخيرة التي طلب فيها من قيادة حزبه التصويت على برنامجه «الحكومي» ودفعت برفيقه انريكو ليتا إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة، بعد ساعات من ظهوره أمام وسائل الإعلام معلناً برنامجاً طويل الأمد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، كانت مفاجئة بقدر ما كانت كاشفة لمدى طموح هذا الشاب الجامعي الإطلالة والذي يتنقل على دراجة هوائية لكنه يقدم من غير شفقة على استخدام الأساليب البلشفية للتخلص من رفاقه وخصومه من غير أن تفارق وجهه الابتسامة.
لم يتردد رينزي عندما أكد بعد إعلان تشكيلة حكومته التي يبلغ متوسط أعمار أعضائها سبعة وأربعين عاماً رهانه السياسي يحمل من الأمل بقدر ما هو محفوف بالمجازفات والمخاطر، ولم يكن سوى مردد لما يؤرق الإيطاليين منذ سنوات عندما قال: «لم يعد بإمكان إيطاليا أن تنتظر، إما أن نسرع في إجراء الإصلاحات السياسية والإدارية، وتستعيد المؤسسات والطبقة السياسية ثقة المواطن، أو نحن أمام منحدر وخيم العواقب».
وبلغت البطالة في أوساط الشباب ٤٢ في المئة، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تعلن إفلاسها بالعشرات يومياً منذ أربع سنوات، فيما تتعثر الشركات الكبرى التي قامت عليها نهضة إيطاليا الصناعية، وفي مقدمها «فيات»، في استعادة قدراتها التنافسية في الداخل والخارج.
وتحكم «المافيا»، بأطيافها طوقها على المفاصل السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى باتت أشبه بالقدر المحتوم الذي يرى كثيرون أن لا رجاء في الخلاص منه، وأن من الأفضل لو أضفيت عليها الشرعية. الفساد المالي والسياسي تغلغل في عمق الوعي الاجتماعي الإيطالي بحيث أن رئيس الوزراء الأسبق برلوسكوني، المطرود من مجلس الشيوخ بعد إدانته بالسجن سنتين وحرمانه أربع سنوات من تولي أي وظيفة رسمية أو منصب في مؤسسات الدولة، لا يزال يمارس نشاطه كالمعتاد زعيماً لتحالف اليمين، يستدعيه رئيس الجمهورية إلى المشاورات الدستورية الممهدة لتكليف رئيس الحكومة ويتفاوض معه الرئيس المكلف في شأن البرنامج الحكومي والإصلاحات التي يعتزم إجرائها من دون أن يكون ذلك شواذاً أو خروجاً عن الأعراف!
التنظيمات اليمينية واليسارية المتطرفة التي نشطت بقوة في إيطاليا إبان السبعينات والثمانينات عادت إلى الظهور، والرافضون جذرياً للسياسة بنمطها القائم والمطالبون بشدة وإصرار بقلب المعادلة والخروج من الاتحاد الأوروبي باتوا يحتلون ثلث المقاعد في البرلمان، ويكررون الدعوات إلى إقالة رئيس الجمهورية والعودة إلى صناديق الاقتراع.
وضع ماكيافيلي كتابه الشهير «الأمير» وأهداه لعائلة ميديتشي التي كانت تحكم توسكانة من عاصمتها فلورانس في القرن السادس عشر، وخصص ثلثه للأساليب التي تتيح الوصول إلى الحكم، تاركاً الثلثين للطرق التي تساعد الحاكم كي يحافظ عليه.
لا شك في أن رينزي ابن توسكانة وسياسيها الأبرز اليوم نهل من هذا المؤلف الذي ما زال يعتبر المرجع الأساس في الأنتروبولوجيا السياسية، لكن أحداً لن يراهن على قدرته على الصمود والخروج سالماً من الدهاليز المعتمة التي تدور فيها السياسة الإيطالية والاهتراء الذي تتخبط فيه منذ عقود.