حمادة مدّاح.. قصة نحّات سوري انطلقت من الجولان وحطّت رحالها بالقدس

تقرير أسيل الجدندي \ الجزيرة

الفنان التشكيلي أو النحّات السوري المنحدر من قرية مجدل شمس في هضبة الجولان المحتلة، هكذا يفضل أن يُعرَّف بعيدا عن أي تسمية أخرى لا تدرجه والسوريين في الهضبة ضمن إطار شعب يقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967.

ولد الفنّان حمادة مدّاح في قرية مجدل شمس المحتلة عام 1980، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي فيها قبل توجهه للعاصمة السورية للالتحاق بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق.

التقت به الجزيرة نت لسبر أغوار التحاقه بعالم النحت من جهة، ولاختياره العيش في مدينة القدس التي انتمى لها منذ صغره من جهة أخرى.

ابتسامته لا تفارق وجهه، يرتدي في رقبته سلسلة تنتهي بعملتين معدنيتين قديمتين تعلوهما خرزة زرقاء دائرية، الشيب بدأ يغزو لحيته، ونصف رأسه خلا من الشعر.

يتحدث بهدوء وسلاسة عن مرحلة طفولته التي قال إنها لم تخلُ من تثقيف اجتماعي وسياسي، إذ نشأ في عائلة تتمسك بجذورها السورية ولا تتوقف عن سرد تاريخ اجتثاثها من عمقها السوري وعزلها في الهضبة جغرافيا وسياسيا عن الوطن الأم.

خيمة القدس

مع بلوغه سن العاشرة بدأ حمادة الالتحاق سنويا بمخيمات تقام في منطقة “المغاريق” في حقول التفاح بالجولان، وهناك التقى بفلسطينيين من الداخل المحتل والقدس والضفة الغربية، حيث اجتمعوا للتخييم.

حملت الخيمة التي وقع الاختيار على حمادة للتخييم فيها اسم مدينة القدس، ومن هناك بدأ التعرف على هذه المدينة أكثر، بالإضافة لسماعه الأخبار في الإذاعات، وتلقيه معلومات عن هذه العاصمة المحتلة من والديه.

منذ ذلك الحين شعر أن هذه المدينة يجب ألا تمر مرور الكرام في حياته لكنه كان صغيرا على اتخاذ أي قرار، ولم يكن يعلم أنها ستكون مقره الدائم والدفيئة التي تحتويه كما لو أنه في عاصمة بلده الأصلي دمشق.

أحبَّ مدّاح حصص الفن بالمدرسة، وفي المنزل كان يجلب مادة تشبه الجبص ويصنع منها مجسمات كمنفضة سجائر وسفينة ومنحوتات صغيرة أخرى كان يهديها لأشخاص ويبيعها أحيانا.

وفي المرحلة الثانوية التحق بـ”مؤسسة فاتح المُدرّس للفنون والثقافة”، وتعمق في مجال الفنون، واتخذ قراره بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق.

“لم أكن حينها قد زرت سوريا من قبل، لهفتي كانت كبيرة للالتقاء بالأقارب هناك والتعرف على كل شبر في وطني الذي كبرت بعيدا عنه قسرا، الوصول إلى هناك مؤلم، إذ نصعد في حافلات من الجولان إلى منطقة القنيطرة، وهناك نعبر نقطة تفتيش إسرائيلية ثم نمر بنقطة المراقبة التابعة للأمم المتحدة، وبالوصول إلى النقطة السورية للتفتيش تُغلق البوابة علينا ونصعد إلى حافلات تقلنا إلى دمشق”.

أغلقت البوابة على حمادة فعزلته في وطنه عن أهله في القرية السورية المحتلة، وعاش في منطقتي المزّة وجرمانا في دمشق ما بين عامي 2000 و2006، ولم يكن سهلا عليه التأقلم بعيدا عن أهله خاصة وأن وسائل الاتصال لم تكن متاحة بسهولة حينها.

يقول “لم أكن أتحدث معهم هاتفيا بشكل دائم، لكن في مجدل شمس يوجد منطقة مُطلة تسمى طلّة الصيحات يصعد إليها الأهل من هناك ونأتي نحن إلى الجهة المقابلة لها من سوريا ونتحدث معهم عبر مكبرات الصوت ونراهم بالمناظير، كان عيد الأم في أول مرة ذهبت إلى ذلك المكان رأيت أهلي من بعيد وتحدثت معهم وبكيت كثيرا، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها بلدتي من الوطن الأم وكنت أرى دائما وطني من بلدتي المحتلة”.

تعلق حمادة بدمشق وتعلم فيها الكثير بعد انفتاحه على الحياة الثقافية والاجتماعية، وبعد إنهاء دراسته الجامعية عام 2006 كان من الصعب عليه فراقها، لكنه فكّر من منطلق يفكر به كل شباب الجولان وهو إذا هم غادروا الهضبة المحتلة فلمن ستبقى الأرض؟

عاد إلى مجدل شمس وبدأت تنمو لديه فكرة أن السوريين في الجولان المحتل والمقدسيين في العاصمة المحتلة يواجهون مصيرا واحدا، وأخذ البحث عن أشخاص يعيشون الهم ذاته.

عام 2011 غادر الجولان وعاش لمدة عام في بلدة بيرزيت الفلسطينية، ثم زحف باتجاه القدس، وبدأ رحلة التعرف على هذه المدينة وسكانها أكثر، وعمل في الورشات الفنية أولا من خلال مؤسسة “مدرستي فلسطين” التي كان مقرها بجوار باب الحديد، أحد أبواب المسجد الأقصى.

يقول “عملي في البلدة القديمة أتاح لي التأمل في كل حاراتها وزقاقها وحجارتها حتى بتُّ أحفظ تفاصيل البلدة القديمة عن ظهر قلب، وكل يوم كان يذكرني كل ما فيها بالبناء القديم في دمشق، فشعرت بانتماء قوي تجاهها وقررت عدم مغادرتها”.

النحت والمجتمع المقدسي

وعن رحلته في دورات النحت مع المقدسيين، قال إن الفكرة لم تكن مقبولة في بادئ الأمر بسبب الفكر المتأصل بأن المجسمات المنحوتة هي عبارة عن أصنام يتعارض صنعها مع التعاليم الدينية.

“بعد تفهمي للمجتمع أوصلت لهم حقيقة فن النحت من خلال ما هو النحت ولماذا ننحت؟ وأننا نصنع المجسمات لأهداف فنية جمالية وللتعبير عن أنفسنا وحالات معينة”.

منذ عام 2012 حتى اليوم نفذ مدّاح ورش نحت فنية مع آلاف المقدسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 أعوام و60 عاما، ولفت انتباهه أن الكثير من المنحوتات مرتبطة بأحداث القدس وشخوصها والهواجس التي تنتاب الكبار والصغار في هذه المدينة.

ورغم قائمة الورشات الكثيرة التي نفذها مع مؤسسات عدة، يعتبر النحّات السوري أن دورة النحت التي نفذها لمجموعة من الأكفّاء هي أكثر التجارب استثنائية في مسيرته الفنية، والتي توجّت عمله في هذا المجال وأعطته بصمة مختلفة في عالم الفن.

“ما صنعه هؤلاء يفوق قدرة المبصرين بكثير، فهم يرون كل شيء بقلوبهم، وهذا أعمق من رؤية الأشياء بالعين، أحدهم نحت وجها بملامح دقيقة جدا، وآخر نحت شخصية كرتونية معتمدا على وصف نجله لملامحها، لم أعلمهم بل تعلمت منهم وأعطوني وسام شرف من خلال تدريبهم”.

يختم مداح حديثه للجزيرة نت بوصف مدينة القدس بالشقيقة التوأم لدمشق، وعن أمنيته قال “أنا مدمن على الجلوس في باب العامود الذي يسمى أيضا باب دمشق لأن القوافل قديما كانت تنطلق منه متجهة إلى دمشق، أمنيتي أن تنتعش القوافل مجددا بين المدينتين وتتحرر كافة المدن من الاحتلال والاستعمارات الخارجية”.

تعليقات

  1. تمنياتي لك التوفيق يا غالي ومن تألق لتألق والى ألأمام

التعليقات مغلقة.

+ -
.