وارد جداً أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وضع إطار تفاهم على حل سياسي في سورية يتخطى «عقدة الأسد»، بعدما حصل على تنازلات مهمة، أميركية وسعودية وتركية، أبرزها: أولاً، تقبّل الدور الروسي القيادي في سورية واستعادة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. ثانياً، الاستعداد للتكاتف العسكري الاستخباراتي في الحرب على «داعش» بدلاً من خوض روسيا المسيحية حرباً ضد «الإرهاب الإسلامي» القابل للتفشي في عقر دارها وحديقتها الخلفية. ثالثاً، سحب الشروط المسبقة الداعية إلى رحيل الرئيس بشار الأسد مع بداية العملية السياسية الانتقالية واستبدال ذلك بمغادرة تدريجية للأسد ترافق العملية الانتقالية. ورابعاً، الموافقة على دعم مؤسسات النظام في دمشق كجزء من الحل، فيما كانت المواقف القديمة تصر على استبداله كلياً لنصب المعارضة مكانه. فإذا اتخذ فلاديمير بوتين قرار البناء على هذه التنازلات، لا بد أنه بحث مع بشار الأسد – الذي استدعاه إلى موسكو هذا الأسبوع – خريطة طريق لمغادرته السلطة بناء على برنامج زمني تقتضيه العملية الانتقالية لن يقتصر على أسابيع، على الأرجح، بل سيستغرق شهوراً. هكذا يمكن للأسد أن يغادر السلطة بعد إلحاق الهزيمة بالإرهاب، كما يردد دوماً، وبعد تقوية ركائز النظام. وهذان العنصران يشكلان «خروجاً مشرفاً»، أفضل للأسد من الانهزام ومواجهة المحاسبة على دوره في ما آلت إليه الأمور في سورية. فلو كان هدف دعوة بوتين للأسد إلى موسكو التأكيد على تعاضد الرجلين مهما كان، لما تحرك الرئيس الروسي فور استكمال الزيارة للتحدث هاتفياً مع الملك سلمان بن عبدالعزيز والملك عبدالله الثاني والرئيسين المصري عبدالفتاح السيسي والتركي رجب طيب اردوغان. إنما هذا لا يعني أن اجتماع وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وتركيا اليوم في فيينا سينتهي بإعلان علني لأي اتفاق على رحيل الأسد. وربما أن ما ستأتي به الديبلوماسية الروسية لإطار التفاهم قد لا يكون مقبولاً، إذا اعتبرته تركيا والسعودية بالذات خالياً من الضمانات المطلوبة. وعليه، إن الأيام المقبلة مهمة للتعرّف على تقاسيم العملية السياسية الانتقالية – وقد تتسرب أسماء ما زالت قيد البحث بين اللاعبين الكبار. إنما الواقعية السياسية تتطلب الحكمة والحذر أولاً، لأن «عقدة الثقة» هي بحجم «عقدة الأسد». ثانياً، لأن المعركة العسكرية ما زالت مستمرة. وثالثاً، لأن البعد الإيراني في المبادرة الروسية ما زال غامض الملامح، البعض يرى فيها الخاسر على يد روسيا، والبعض الآخر يراها ضمن التنسيق الروسي – الإيراني، تحت عنوان أساسي هو أولوية سحق «داعش» ومركزية بقاء النظام في دمشق.
لا نعرف إن كان ما أدى بفلاديمير بوتين إلى إطلاق مبادرته هو وضوح العزم على التصدي لعمليات عسكرية هدفها تنظيف الساحة من المعارضة التي تدعمها الدول الخليجية وتركيا والولايات المتحدة. فإدخال الصواريخ المضادة للمدرعات «تاو» الأميركية إلى ساحة الحرب السورية أنذر فعلاً بتحوّل في الموقف الأميركي مفاده أن واشنطن لن تسمح بإهانتها الفاضحة ولن تتمكن من السكوت على حلف عسكري روسي – إيراني بميليشيات «حزب الله» للقضاء على المعارضة السورية المعتدلة لإنقاذ بشار الأسد ونظامه. تلك الرسالة تم إبلاغها بكل وضوح. ورجال موسكو سمعوها جيداً.
لعل من سمعها جيداً هم العسكريون الروس الذين تذكّروا ما فعلته صواريخ «ستنغر» بالاتحاد السوفياتي في أفغانستان وأدت إلى انهياره. لعل هؤلاء الرجال هم الذين أقنعوا بوتين أن الأفضل لروسيا ولمصلحتها القومية ألّا تغرق في وحل سورية ليصبح مستنقعاً لن تتمكن من التخلص منه. فشبح «الأفغنة» ليس اختراعاً أميركياً لتخويف روسيا وإنما هو كابوس روسي يربض على صدور هؤلاء الرجال الذين هم أساساً من الحقبة السوفياتية. والأرجح أنهم أصروا على إيقاظ رئيسهم إلى ضرورة تفادي التهور والغطرسة العارمة، لأن كلفتها ضخمة على روسيا لا سيما وهي الدولة المسيحية أساساً ذات الأقلية الإسلامية والمطوقة بخمس جمهوريات إسلامية. رأى هؤلاء الرجال أنه ليس في مصلحة روسيا أن تنصب نفسها رأس الحربة في الحرب العالمية على ما هو مُصنّف بأنه «إرهاب سنّي». رأى هؤلاء الرجال أن الصفقة اليوم أفضل لروسيا من الورطة.
ثم إن الروس لم يخرجوا في تظاهرات ضد دعم حكومتهم لرئيس يرفضه نصف شعبه ويتهمه بقتل مئات الآلاف. انخرط الروس في القومية الروسية واعتبروا كل موقف لحكومتهم رداً على الإهانة الأميركية والأوروبية لهم أثناء الحرب الليبية. لذلك لم يدققوا في انعكاس السياسات الروسية على الشعب السوري. أما الآن وقد قرر بوتين التصعيد عسكرياً وعاد شبح «الأفغنة» إلى الأذهان، خرجت تظاهرات روسية احتجاجاً يرافقها التأفف من عنجهية الرئاسة الروسية وتأهب العسكريين ضد التورط في مستنقع سورية.
هذا لا يعني أبداً أن روسيا ستتراجع عسكرياً في سورية وتتقهقر خوفاً من «الأفغنة». ما يعنيه هو أن روسيا، وفق ما يبدو واضحاً، قررت أن تضع أفقاً سياسياً لتصعيدها عسكرياً. ولذلك، المبادرة.
الأطراف الأخرى المحتجة على التصعيد العسكري الروسي في سورية جاهزة للعمل على تسوية وحل سياسي، لكنها هي الأخرى قررت التصعيد عسكرياً كجزء من التموضع على طاولة التسويات.
أفضل السيناريوات هو أن يكون التصعيد العسكري الآتي تطوراً طبيعياً مع اقتراب التسوية السياسية التي يتم الاتفاق عليها روسياً وأميركياً وسعودياً وتركياً، بل ودولياً. أسوأها هو أن يستمر التصعيد العسكري بلا تفاهمات ولا تسويات، فتصبح سورية مثلاً يُضرَب به أسوأ من أفغانستان. المرهب أن هذا الأمر ما زال وارداً مع أن مؤشرات اليوم تفيد بأن الصفقات آتية.
المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات تحركتا نحو روسيا منذ فترة لإقناعها بأن لا عداء معها بل إن المصالح المشتركة عديدة ولا خلاف مع موسكو سوى حول مصير الأسد في التسوية السياسية وحول السلاح الروسي إلى إيران. حتى في أعقاب مفاجأة التدخل العسكري الروسي العلني في سورية، توجهت وفود رفيعة المستوى، سعودية وإماراتية، إلى روسيا لتشدد على ما يمكن أن يشكل قاعدة تعاون سياسي وتبادل تجاري ومصالح مشتركة. التزمت الديبلوماسية السعودية والإماراتية مسار الإقناع في الشأن السوري ووجدت حول الرئيس بوتين مَن يريد حقاً الإصغاء جيداً لأن في العرض إنقاذاً لروسيا من الورطة الآتية. فيه أيضاً ترحيب بالشراكة الروسية لإعادة البناء في سورية عندما يحين الوقت وليس فقط إقراراً بضرورة استعادة روسيا نفوذها السياسي في هذه الجغرافيا المهمة لها.
العلاقة الروسية – التركية والعلاقة الروسية – القطرية تأثرتا بعنصرين مهمين هما: أولاً التنظيمات الإسلامية التي تعتبرها موسكو متطرفة وتشمل «الإخوان المسلمين» الذين تتهم موسكو انقرة والدوحة بدعمهم. وثانياً، أنابيب الغاز العابرة عبر سورية وتركيا لتصدير الغاز من قطر، المنافس الأول لروسيا في مجال الغاز، إلى أوروبا الحديقة الخلفية لروسيا.
الأرجح أن تكون السيطرة الروسية على سورية نقطة فاصلة في مشاريع أنابيب الغاز لا سيما أن تركيا تبدو طرفاً في التفاهمات على صفقة متكاملة في الشأن السوري. أنقرة قدمت تنازلات على نسق موقع الأسد في المرحلة الانتقالية والاستعداد للدخول طرفاً مباشراً في الحرب على «داعش». وأنقرة لوّحت أيضاً بورقة المهاجرين إلى أوروبا لتحصل على تنازلات من ألمانيا المؤثرة جداً في روسيا بسبب علاقاتهما الجيدة.
العلاقة الروسية – الإيرانية تحالفية منذ تعاونهما في سورية، وليس هناك ما يؤكد نظرية التنافس على النفوذ. ولكن لعلّ هناك رغبة روسية بإمساك زمام الأمور العسكرية لتكون هي المشرف الوحيد على العمليات العسكرية داخل سورية، وليس «الحرس الثوري» أو «حزب الله» أو الميليشيات الشيعية التي يصدّرها «الحرس الثوري». ولعل موسكو ترى في محور «الحرس الثوري» مع «حزب الله» والميليشيات التي يديرها تهديداً جوهرياً لنقطة رئيسية في سياستها السورية وهي تقوية ركائز النظام السوري وليس إضعافه على يد أيٍّ كان.
فإذا وافقت إيران على مفاهيم روسيا للأدوار الروسية والإيرانية في سورية، لا خلاف. أما إذا أصر «الحرس الثوري» على معارضة المفاهيم الروسية، فعلى الدولة الإيرانية حسم القرار لا سيما إذا كان هناك حقاً خلاف بين الرئاسة المعتدلة وحمائمها وبين «الحرس الثوري» وصقوره. والدولة الإيرانية تعني، هنا، المرشد علي خامنئي.
القرار المعني بسورية فائق الأهمية لطهران، وكذلك العلاقة التحالفية مع روسيا والتي ترتبط بها صفقات تجارية وصفقات سلاح. موسكو لا تستهين بالعلاقة مع طهران، وطهران لا تستغني بسهولة عن العلاقة مع موسكو. لذلك، لا بد أن هناك تنسيقاً مسبقاً بين الدولتين. كلتاهما معرّضة للتورط في سورية لتكون إما أفغانستانه أو فيتنامه. فإذا وجد الطرفان أن الوقت مناسب لصفقة قد تستلزم الرحيل التدريجي لبشار الأسد مقابل منافع عديدة بما فيها نفوذهما المشترك على أي حكم آتٍ في سورية، لعل في الأمر صفقة.
بقي موضوع العدو المشترك للجميع، ذلك العدو الملثم المنظم المسمى «داعش». قد يكون سحقه سهلاً إذا تلاقت جميع الجهود العسكرية والاستخبارية، فهو أساساً يبدو كوكتيلاً استخبارياً بامتياز. وقد يكون الأداة المدمرة إذا حدث ذلك الاستقطاب في الساحة السورية.
الأيام المقبلة آتية بجديد يستحق القراءة الدقيقة وليس القفز إلى تصفيق أو تهويل. إنها مرحلة مهمة في المفاوضات الدولية على سورية. ولعلها تأتي بخير على سورية.