بدأت هزات المنطقة في بغداد في 9 نيسان (أبريل) 2003، ومنها قاد الاحتلال الأميركي العراق إلى بداية تخلخل النظام الإقليمي الذي أقيم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي استند كبنية جغرا – سياسية إلى خرائط سايكس – بيكو (1916) التي جرى تطبيقها مع انهيار الدولة العثمانية في عام 1918 بنتيجة الحرب العالمية الأولى. أتى هذا التخلخل نتيجة أن انهيار «البوابة الشرقية للوطن العربي»، كما كان يسمي صدام حسين العراق في فترة الحرب مع إيران، قد قاد إلى تمدد إيراني إقليمي غرباً باتجاه آسيا العربية وزعزع الإقليم برمته. وكما كانت عملية غزو العراق واحتلاله في ظل تحالف أميركي – إيراني، فإن حرب صيف 2006 في لبنان كانت نتيجة انشقاق هذا التحالف في آب (أغسطس) 2005 مع استئناف طهران برنامجها في تخصيب اليورانيوم ، وهي جرت عبر الوكلاء في بلاد الأرز. لم يكن ممكناً حصول «الربيع العربي» وهزاته في عام 2011، لولا هزة 9 نيسان 2003. في المقابل كانت هزة غرب العراق في شكلها الاعتصامي السلمي (منذ كانون الأول – ديسمبر 2012 وحتى أوائل 2013)، ثم في شكلها المسلح في الرمادي والفلوجة (بدءاً من كانون الثاني – يناير 2014)، نتيجة التأثير على سنّة العراق العرب.
في الموصل 10 حزيران (يونيو) 2014، انفجر البناء المشترك الأميركي – الإيراني لـ «العراق الجديد» الذي بدأ مع سقوط بغداد بيد الاحتلال الأميركي وجرت ترجمته بعد ثلاثة أشهر في صيغة «مجلس الحكم» الذي ظلت صيغته فاعلة لأحد عشر عاماً، مع ميل ميزان القوى لمصلحة طهران على حساب واشنطن في فترة حكومة نوري المالكي الثانية منذ 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010. تمظهر هذا الانفجار في شكل انهيار للثنائية الشيعية – الكردية التي كانت ترجمة للتحالف الإيراني – الأميركي في الغزو والاحتلال الأميركيين العراق، ليأخذ شكل تحالف سنّي عربي – كردي ضد المالكي. عملياً، هذا الانفجار هو أقرب لتشظي العراق إلى ثلاث جغرافيات منفصلة وفقاً لـ «المكونات العراقية الثلاثة»، ولكن من دون أن يقود إلى خرائط جديدة أو تقسيم على الأرجح، وإنما بحكم الأمر الواقع حتى يحين أوان التسوية. إحدى هذه الجغرافيات، وهي الممتدة من الموصل إلى الرطبة، بمثابة حاجز جغرافي مضاد يفصل الامتداد الإيراني بين الرافدين وبين شرق المتوسط.
وكما كانت بغداد 2003 مصعداً لإيران، فإن ما حدث في 10 حزيران 2014 في الموصل شكل ضربة موجعة لطهران، خلخلت وزعزعت مجمل التمدد الإيراني في عموم آسيا العربية. في الموصل ومنها عاد النفوذ التركي في الإقليم إلى الصعود بعد انحسار مع فشل «الربيع العربي» في عام 2013، وفشل تيار الإسلام السياسي في ملء فراغ سقوط الأنظمة الموالية لواشنطن لمصلحة الأخيرة، ومن ثم عودة العاصمة الأميركية من جديد إلى العسكر على حساب الإسلاميين ليصبح «الربيع العربي» بالمآل الأخير – والسياسة تقاس كأفكار وكحركة بالنتائج، وليس بأي مقياس آخر – ربيعاً للعسكر، وقد عاد الأتراك إلى الصعود الإقليمي عبر تحالف مستجد مع مسعود بارزاني في أربيل بعد طول توجس من الإقليم الكردي العراقي، من أجل فرض أنقرة لاعباً رئيسياً ليس فقط في العراق، وإنما من جديد في عموم الإقليم. في الموصل ومنها، وعبر سكوت العرب السنّة، وأيضاً الأتراك على تمدد الأكراد نحو كركوك بعد أن كانا الأكثر حساسية تجاه وضد الأكراد في الأحد عشر عاماً الماضية، بدأت ثنائية عراقية بين أربيل والموصل في رعاية تركية ستكون تلقائياً ليس فقط ضد المالكي، وإنما كذلك وأولاً ضد طهران وامتداداتها العراقية والإقليمية.
أيضاً، مع عودة العرب السنّة في العراق ليكونوا لاعباً رئيسياً في المعادلة العراقية في مرحلة (ما بعد الموصل) بعد أحد عشر عاماً من الإقصاء والتهميش لمصلحة الثنائية الشيعية – الكردية، ستعود الرياض لاعباً قوياً في العراق بعد أن فشلت «القائمة العراقية»، بزعامة أياد علاوي في برلمان 7 آذار (مارس) 2010، والتي رعاها تحالف ثلاثي تركي – سعودي – سوري، في تحقيق ذلك. هذا المكسب السعودي في النفوذ الإقليمي عبر العراق في صيف 2014، يضاف إلى ما تحقق للرياض في قاهرة 3 تموز (يوليو) 2013 عبر سقوط حكم «الإخوان المسلمين»، وكما كانت القاهرة محلاً لصدام تركي – سعودي يوم سقوط مرسي، فإن موصل 10 حزيران 2014 هي تلاقٍ تركي – سعودي سيجعل أنقرة والرياض في حالة من الاستقطاب الثنائي بوجه طهران في بلاد الرافدين.
ليست واشنطن بعيدة من ذلك وهي المهجوسة منذ آب 2005 بالتمدد الإيراني الإقليمي كتناقض رئيسي في تحديد مجمل سياساتها الشرق الأوسطية: أتى الانفجار الموصلي ليقوي واشنطن أمام طهران في مفاوضات رسم ملامح الاتفاق النهائي حول «الملف النووي الإيراني» بعد انتهاء الموقت في 24 أيار (مايو) 2014، هذه المفاوضات التي تريد طهران فيها ربط النووي بالمواضيع الإقليمية بعد أن رفض الإيرانيون الاستجابة لمطلب واشنطن في تحقيق هذا الربط في الاتفاق الموقت الموقع في 24 تشرين الثاني 2013.
في مرحلة «ما بعد الموصل»، وبخلاف «ما بعد بغداد 9 نيسان 2003» لما حكمت بلاد الرافدين بثنائية أميركية – إيرانية، هناك استقطاب رباعي يحكم ما سماه مسعود بارزاني «عراقاً جديداً»، مختلفا عن عراق صدام حسين وعراق بول بريمر، من حيث إن الثنائية الاستقطابية بين واشنطن وطهران أصبحت رباعية بانضمام أنقرة والرياض.
هذا سيقود إلى تداعيات كبرى على عموم منطقة الشرق الأوسط: هذه الرباعية انطلاقاً من العراق الذي يمثل بمكوناته المذهبية والقومية وفي تاريخه مكثفاً للمنطقة، ستكون الأكثر فاعلية في رسم منطقة الشرق الأوسط، كما كان طرفاً ثنائية (ما بعد بغداد)، أي واشنطن وطهران، هما الأكثر تأثيراً في المنطقة طوال أحد عشر عاماً، حيث لم تستطع سياسة «معتدلون ضد متطرفين» التي طرحتها كوندوليزا رايس بعد قليل من انتهاء حرب 2006، أن تفعل كثيراً ضد إيران. على الأرجح أن ما سيقرر للعراق في مرحلة (ما بعد الموصل) من أطراف هذه الرباعية الدولية – الإقليمية سيكون له ترجمات كبرى في الشرق الأوسط. هنا، في صيف 2014 أبرزت الأزمة العراقية بلاد الرافدين باعتبارها الأهم للقوى الدولية والإقليمية، من سورية ومصر من خلال قياس تفاعل هذه القوى مع الأزمة السورية منذ 18 آذار 2011 ومع الأزمة المصرية في ربيع وصيف 2013.
هذه الرباعية الحاضرة في العراق هي حاضرة بقوة في الأزمة السورية التي تحضر فيها بقوة موسكو، والتي يلفت النظر غياب فعاليتها في عراق 2014، كما كانت غائبة في عراق 1991، وعراق 2003. بعد ثلاثة أيام مما جرى في الموصل تحدث الرئيس الأميركي عن «الحرب الأهلية السورية وهي تتمدد أو تتناثر spilling عبر الحدود العراقية»، ما يوحي بأنه، كما قادت الأزمة الأوكرانية في شباط (فبراير) 2014 إلى موت (جنيف – 2) السوري، فإن الأزمة العراقية يمكن أن تدفع بقوة إلى تسوية سورية عبر (جنيف – 3) ولكن عبر خماسية دولية – إقليمية (واشنطن – موسكو – طهران – الرياض – أنقرة).
سيساهم في تسريع هذا المسعى الدولي – الإقليمي نحو التسوية السورية ما أظهرته بلاد الشام من قابلية لكي تكون مفرخة قوية للتطرف عبر «داعش» و«دولة الخلافة الإسلامية» حيث شكل (البغدادي) الذي كان الاضطراب السوري المصعد الأقوى له وليس العراقي، ظاهرة أقوى من الزرقاوي الذي أنتجه عراق ما بعد 9 نيسان 2003، ومن بن لادن الذي أنتجته أفغانستان ما بعد الغزو السوفياتي.