خولة إبراهيم: “لندن جنين” أنضجتني، والإخراج المسرحيّ ليس سهلًا لامرأة

المصدر: عرب 48 \ فسحة – أجرى الحوار حكيم خاطر *

بلغة سلسة بعيدة عن التكلّف، تطرح مسرحيّة “لندن جنين” سؤال الانتماء إلى وطن غريب، حيث يصارع فيصل وعلاء أسباب البقاء والرحيل، خلال إقامتهما في بريطانيا، عبر حدث واحد مستمرّ يجترّ كلاهما العصف العاطفيّ داخلهما، وذكرياتهما في مخيّم جنين، بقالب هزليّ أحيانًا وتراجيديّ أحيانًا أخرى. ينصهر المنطق بالعاطفة، والفلسفة بالإيمان، والحرّيّة بالقمع، لتتشكّل زوبعة من الأفكار والصراعات الداخليّة، حين يقدّم الممثّلان فيصل أبو الهيجاء وعلاء شحادة أداءً ممتازًا.

من مسرحية لندن جنين

في حوار أجرته فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع الممثّلة والمخرجة المسرحيّة خولة إبراهيم، تحدّثنا عن إنتاج مسرحيّة “لندن جنين”، من الفكرة حتّى الخشبة، ومجمل تجربتها المسرحيّة.

فُسْحَة: كيف بدأت فكرة المسرحيّة بينك وفيصل وعلاء؟

خولة: بعد عودة فيصل وعلاء من بريطانيا، ارتأيا نقل تجاربهما من بريطانيا إلى فلسطين، فخرجا بأفكار وموادّ متشابهة عن التجربة نفسها؛ فهُما – إذن – مَنْ خرج بالفكرة الأصليّة، فأخذا يكتبان الموادّ والعروض معًا. بعد مدّة، طلب علاء منّي إبداء رأيي في عرضهما، واعتقدت أنّ العرض يصلح عملًا مسرحيًّا، ثمّ بدأنا نحن الثلاثة بكتابة قصّة متكاملة لها بداية ونهاية، تتضمّن تجربتهما في لندن، لكن مع الاحتفاظ بالجانب الكوميديّ من العرض الأصليّ.

فُسْحَة: على الرغم من بساطة الحدث ووضوحه، ثمّة زخم معرفيّ وفلسفيّ وعاطفيّ للشخصيّات؛ كيف اختزلت هذا الزخم بكلمات وأحداث بسيطة؟ وكيف كانت العمليّة الإخراجيّة؟

خولة: أعتقد أنّ السرّ في هذه المسرحيّة أنّني أحبّ العمل في المسرح المبتكر، وهو المسرح المبنيّ على الارتجالات من قِبَل الممثّلين؛ فأُعطيهم أنا – بصفتي مخرجة – موضوعًا ما ليفكّروا فيه ويخرجوا بارتجالات. والشيء المميّز في المسرح المبتكر أنّ الموضوع يمكن أن يكون إنسانيًّا عالميًّا، لكنّ القصص المرتبطة به مختلفة، فمثلًا طلبت منهم أن يرووا قصصًا حول أمّهاتهم، وعن المرّة الأولى للسفر، ومعنى بريطانيا والمخيّم وألمانيا. وفي الارتجال أمران: الارتجال الواعي الّذي يُدرك فيه الممثّل أنّه على خشبة مسرح؛ فبالتالي ثمّة هدف معيّن يُراد إيصاله، ثمّ القصّة الشخصيّة، مثلًا مونولوج فيصل الأخير حول أمّه، هذا المونولوج الّذي تطوّر على مدار سنة ونصف من علاقتي بفيصل وما الّذي تعنيه أمّه بالنسبة إليه؛ فمن خلال هذه المدّة استطعت أن أعرف كيف يفكّر فيصل، وكيف يرى والدته، وكيف تتغيّر تعابير وجهه. أظنّ أنّ الزخم في المسرحيّة مرتبط بالعلاقة الّتي تجمعني بعلاء وفيصل على مدار عام ونصف، فتطوّرت الموادّ خلال هذه المدّة.

فُسْحَة: كيف يرتبط هذا بك وأنت ابنة الجولان، مع ما يفصل بين الجولان وباقي مناطق فلسطين المحتلّة؟

خولة: خلال نشأتي، اعتُبر الجولان كيانًا منفصلًا عن أراضي 48؛ فنعتبر أنفسنا سوريّي الانتماء التاريخيّ والجغرافيّ، وذلك جعل لديّ زاوية رؤية خاصّة للأمور، الأمر الّذي تغيّر في السنوات الأخيرة، بعد انفتاحنا أكثر مع أراضي 48 وبقيّة فلسطين.

فُسْحَة: ما الّذي يجعل الشخصيّتين متعلّقتين ومنجذبتين إلى بلديهما، على الرغم من الاحتلال والقمع المجتمعيّ والسياسيّ، الّذي يُمارَس ضدّهما كلّ يوم؟

خولة: ربّما لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال بدقّة؛ فمن منظور عقليّ بحت يجدر بنا أن نرحل من هنا، لكنّنا لا نفعل، واكتشفت أنّ شخصيّتَي علاء وفيصل لديهما التساؤل ذاته؛ ففي المسرحيّة ثلاثة مشاهد: مشهد د. مارتن الّذي يخبرك كيف تصبح بريطانيًّا أصيلًا، والمشهد خلال إقامتهما في ألمانيا وأنّه كان يجب عليهما البقاء فيها، والثالث مشهد استشهاد سليم الّذي قُتِل بالخطأ، ومن خلال هذه المقاطع نقول في داخلنا، إنّنا فعلًا نحبّ بريطانيا ونحبّ ألمانيا، ولا نحبّ هذا البلد، لكن على الرغم من ذلك نعود إليه! لذلك في النسخة الأخيرة من المسرحيّة، جعلت النهاية مفتوحة مع صراع الشخصيّتين من اشتياق ورغبة في البقاء.

فُسْحَة: ما الّذي كنت تقصدينه عندما طرحتِ في المسرحيّة سؤال القيمة؛ القيمة الّتي لا يجدها الفنّان المحلّيّ في بلده؟

خولة: أعتقد أنّ الوضع هنا ليس عادلًا؛ فبالنسبة إلى عدد الممثّلين والمخرجين والكتّاب القليلين، لا نجد التمويل اللازم، ولا نجد مسارح أو قاعات كافية أو حتّى مُهيَّأة لتناسب قدراتهم، ولا نجد التقنيّات المناسبة أيضًا، وما من أعمال كافية تحفّز إمكانيّات الممثّلين الدفينة، ولا ميزانيّات أو عائد مادّيّ مستقرّ يضمن كرامتهم. ومن الحماقة أن نقول إنّه يمكن المسرح أو مبيعات التذاكر تغطية تكاليف العرض؛ هذا لن يحصل أبدًا، ولا يحصل حتّى في بريطانيا وهي أمّ المسرح، وبصراحة فإنّ التمويل المتاح حاليًّا غير لائق، فلا يصحّ أن نطالب بجودة عالية، إذا كنّا لا نستطيع توفير الدعم والطاقات اللازمة.

أنا أؤمن بأنّ المسرح المكان الّذي يجمع الناس ويُشعرهم بالانتماء؛ فمثلًا خلال عرض “لندن جنين”، من اللحظات الّتي أسعدتني جدًّا، اللحظات الّتي ضحكت أو صفّقت أو تنهّدت فيها القاعة، في تلك اللحظة تشعر بأنّنا شعب فعلًا، بأنّ لدينا لغة واحدة مشتركة تجمعنا، ثمّة حميميّة في المسرح، لا تستطيع محاكاتها عبر أيّ وسيلة سرديّة أخرى.

فُسْحَة: كيف نَمَتْ تجربتك الإخراجيّة والكتابيّة، بين إخراج عرضكِ الأوّل “ظلّ الغمام” (2017) وعرضكِ الأخير “لندن جنين”؟

خولة: كتبت “ظلّ الغمام” بالشراكة مع خليفة ناطور، الّذي كان شريكًا في المسرح كاتبًا ومُعِدًّا، وكتبت أيضًا مسرحيّة “حارس الحكايات”، وهي مسرحيّة غنائيّة لليافعين، ثمّ كتبت مسرحيّة “لندن جنين”، المأخوذة عن قصص ونصوص من الممثّلَين فيصل وعلاء.

في تجربة “ظلّ الغمام” انتابني الخوف؛ فأنا ممثّلة أساسًا، ولم أفكّر من قبل في أن أكون مخرجة. خلال عملي ممثّلة، ومع مرور الوقت، بدأت أشعر بعدم الرضا عن الأعمال، ثمّ في الفترة الّتي كنت أعمل فيها مساعدة مخرج، أو مديرة إنتاج، مع المخرج أمير زعبي، قدّمت للحصول على منحة من “مؤسّسة عبد المحسن القطّان”، من أجل عرض “ظلّ الغمام”، تحدّث معي أمير إن كنت أريد أن أُخرج العمل أو أن أمثّل؛ أجبته بلا تفكير بأنّني سأعمل مخرجة. انتابني الخوف في البداية، خشيت أن أخيّب ظنّ الممثّلين؛ لذلك فقد كانت الطريق صعبة جدًّا.

أعتقد أنّ مسرحيّة “ظلّ الغمام” مسرحيّة جميلة ومهمّة، ربّما لو أخرجتها الآن لكانت خرجت بشكل مختلف، وأعتقد أنّني ما كنت لأنجح لولا الأصدقاء الّذين أحاطوا بي، وكان كلّ نقد منهم نابع من إيمان عميق فيهم بأنّني أستطيع النجاح.

لكن “لندن جنين” كانت تجربة مختلفة تمامًا، فكنت أعلم تمامًا ما الّذي أريد القيام به، وأعتقد أنّها تجربة حملت نضجًا شخصيًّا أعلى بصفة مخرجة، لأصبح أكثر إحاطة بما أريده من كلّ حركة أو مشهد، وماهيّة الرسائل الّتي أريد إيصالها، وأعتقد أنّ أصعب أمر على المخرج كيفيّة تقديم العمل للممثّلين؛ أن تقول إنّ هذا العمل لكم، وكأنّك تُطلق طفلًا إلى الحياة لتدعها تشكّله كيفما ارتأت.

فُسْحَة: أن تكوني مخرجة شابّة امرأة؛ ما الصعوبات الّتي واجهتكِ؟ وكيف تغلّبت عليها؟

خولة: عندما أنظر إلى الماضي، في كثير من الأحيان كنت على وشك الانكسار، والتوقّف عن هذا العمل، للعمل في مجال آخر كالمحاماة مثلًا. أعتقد أنّ مجال المسرح مليء بالصعوبات، ولكوني امرأة كانت دائمًا نظرات نحوي لأنّي شابّة مخرجة، وكذلك ردّة فعل من قِبَل الآخرين عندما أتحدّث عن ملاحظة ما، وكان دائمًا ذلك الإحساس بأنّ امرأة يجب ألّا تقول ما يجب أن تفعلوا، لكن في نهاية الأمر ثمّة قرارات يجب أن تُحسَم.

فُسْحَة: ما مشاريعك الحاليّة؟ وما المواضيع الّتي تودّين لو تطرحينها؟

خولة: ثمّة بعض المشاريع الّتي تُنفَّذ بتعاون بين مسارح محلّيّة ومسارح في الخارج، لا تزال غير معلنة، وثمّة بعض المشاريع الشخصيّة؛ فبالنسبة إليّ لا تزال مسرحيّة “ظلّ الغمام” تُلاحقني، ولأنّها مسرحيّة مهمّة، إذ تتكلّم عن أهل الجولان الّذي أنا منه، وهو ما يجعلني أودّ العودة إليه مجدّدًا. ربّما أُعيد صياغتها مسرحيّة مونودراما؛ فالخطّة أن أكون أنا الكاتبة والممثّلة أيضًا، لأنّها قضيّتي في الأصل.

ثمّ إنّني أكتب منذ عام ونصف عام نصًّا مسرحيًّا، سأُخرجه أيضًا ربّما العام المقبل. تتحدّث المسرحيّة عن “كنيسة كثيزما” في القدس، المكان الّذي ارتاحت فيه مريم، وهذه في الوقت الحاليّ مشاريعي الواضحة.


  • حكيم خاطر: كاتب وروائيّ فلسطينيّ. صدرت له رواية “الفتاة” عام 2017، ورواية “كليشيه وديستوبيا” عام 2019، الحاصلة على جائزة تشجيعيّة وإشادة من مؤسّسة عبد المحسن القطّان في مسابقة الكاتب الشابّ – حقل الرواية.
+ -
.