
يصعب على الآخرين إدراك طبيعة الحياة التي يعيشها السوريون في الداخل السوري على اختلاف المناطق، بل قد يصعب على سوريي الداخل أنفسهم إدراك وفهم الحياة التي يعيشها السوري في المنطقة الأخرى، إذ هناك دولة النظام، ودولة التنظيم، ودولة الثوار، ودولة قوات الحماية الكردية. يقول أبو فيصل (سائق): «عندما ننتقل من منطقة سيطرة الحر إلى التنظيم أو النظام أو الأكراد، نجد الآخرين ولا سيما الذين لم يغادروا مناطقهم يجهلون كيفية سير الحياة في الطرف الآخر، ويسألوننا عن الأوضاع الأمنية والمعيشية وكأننا في دول مختلفة». وهناك سوريون منذ بداية الأزمة لم يغادروا أماكن سكنهم، ولا يدركون التفاصيل الدقيقة للحياة في المناطق الأخرى.
فالمواطن السوري يعيش حيوات مختلفة من حيث طبيعة السلطة الحاكمة أو المسيطرة، ولكل حياة ظروفها، وقوانينها، وشروطها، ومتطلباتها، وعليه أنْ يتأقلم معها جميعاً، ولعل المواطن السوري في مناطق سيطرة التنظيم أكثرهم معاناة نتيجة حجم الضغوط النفسية والأمنية والمادية عليه.
يعيش المواطن في (الدولة الإسلامية) في دولة لا يَعْتَرف بها، ويتمنى زوالها، وهي من جانب آخر لا تَعْترِفُ بدولته (سورية) التي ينتمي إليها، وتَعْتَبِر هذا المواطنَ من رعايا الدولة الإسلامية لا الجمهورية العربية السورية، ولعل هذه أبرز مشكلة يعانيها المواطن السوري في مناطق التنظيم. يقول المحامي حسن من ريف حلب: «عمل التنظيم أخيراً على طمس ومحو كل ما يشير للدولة السورية، بل وعمد إلى تغيير أسماء المناطق والمنشآت، ووصل به الأمر الى إتلاف الوثائق والمستندات الصادرة عن الدولة السورية، فقامت حواجز التنظيم بتمزيق دفاتر خدمة العلم للشباب، كما قامت أيضاً بإحراق كل الشهادات والوثائق والمستندات في المدارس وغيرها» وعليه فالمواطن في مناطق التنظيم مُلزم بالتأقلم مع تنظيم الدولة بحكم الأمر الواقع، ومُلزم بالتعامل والرجوع للدولة السورية المعترف بها دولياً من حيث الأوراق الثبوتية (جواز السفر، رخص القيادة، البطاقة الشخصية…) ومن حيث الشهادات العلمية، والوثائق الرسمية (الشهادات الدراسية، عقود الزواج، إثبات الملكية) مما جعله عرضة للاستغلال والابتزاز من مسيّري المعاملات والسماسرة. يقول المدرس ياسر من ريف حلب الشرقي: «عدا المعاناة الأمنية والمادية على الطريق نضطر الى دفع أموال مضاعفة من أجل إنجاز معاملتنا بالسرعة المطلوبة، لأننا مضطرون للنوم في المساجد خلال فترة إنجاز المعاملة أو السكن في فندق ونكون حينها عرضة للاعتقال لأن كل الفنادق ترسل أسماء المقيمين لديها إلى فروع الأمن ويعتقل كثير من الشباب لتشابه الأسماء وحصلت حالات اعتقال كثيرة للتشابه» وأحياناً يتجاوز الأمر عمليات الابتزاز والاستغلال المادي ليصل للوقوع ضحية عملية نصب واحتيال. يقول ابو أكرم من ريف حلب الشرقي: «دفعت 220 ألف ليرة سورية للحصول على جواز سفر، وفي النهاية حصلت على جواز مزور، ولا أستطيع الذهاب الى مناطق النظام، وحتى لو استطعت الذهاب لا أستطيع تقديم شكوى ضد المحتالين». ولكن رغم رفض التنظيم للدولة السورية هم يعترفون بها في شكل غير مباشر، يقول المحامي حسن: «عناصر التنظيم يثبتون ملكيتهم للعقارات من خلال حكم محكمة مكتوب في أعلاه باسم الشعب العربي في سورية، فهم غير قادرين فعلياً على الانسلاخ عن الدولة السورية».
كما يعيش المواطن في مناطق التنظيم صراعاً نفسياً عميقاً بسبب تنازع الولاءات، فهو مضطر للعيش مع سلطة تعمل على مسخ هويته، وتغيير منظومة حياته الدينية والفكرية وحتى الاجتماعية، وفي الوقت ذاته مضطر للتعامل مع الدولة الرسمية المعترف بها دولياً وربما قلبه وفكره مع الثورة السورية، وشهدت مناطق التنظيم كثيراً من الحوادث المؤلمة نتيجة هذا الصراع، فأبو حسن من مدينة الباب خسر ولده الذي قتل على يد التنظيم، ولم يستطع دفنه في مقابر المسلمين لأنه –في نظر التنظيم- مرتد كافر، والتاجر يحيى سلال من مدينة منبج استولى التنظيم على كل أمواله لاتهامه بدعم الثوار (الكفار المرتدين)، ناهيك عن سيطرة التنظيم على بيوت وأرزاق الثوار، وكل من له صلة بالنظام حتى وصل الأمر الى مصادرة أموال عضو متوفى في مجلس الشعب من أولاده بدعوى الحكم عليه بالكفر، وبالتالي لا يحق لأولاده المسلمين أن يرثوا كافراً، وبهذه البساطة السوداء تذهب أموال وتزهق أرواح، وتُعاش قصص الصراع، والقهر في مناطق التنظيم.
ولا يقتصر الصراع على الذين يحملون نَفَسَاً ثورياً بل يمتد للجميع سواء أكانوا مؤيدين للنظام السوري أو معارضين، إذ يعمل التنظيم على محو كل ما يمت للدولة السورية، وبناء دولته، وتَدَخَلَ بأدق تفاصيل الحياة، فأغلق المدارس والمحاكم وأعاد فتحها وفق منظومته الجديدة، وامتد الأمر الى كل الدوائر. يقول المهندس محمد من ريف حلب الشرقي: «عيّن التنظيم على رأس كل منشأة رسمية أو خدمية من بلدية أو هاتف أو كهرباء أو تربية أميراً من قبله بيده الحل والعقد، وبدأ أخيراً بتوظيف عناصر موالين له، وعلى الكادر القديم –مجبراً- التعاون والامتثال للدولة الجديدة ربما أكثر من عناصرها أنفسهم، في حين يقبض الموظفون رواتبهم من النظام الذي خرجوا عليه، والذي يقطع رواتب من يشاء في شكل كيفي».
ولاحَقَ التنظيم العنصر البشري الذي كانت تقوم عليه الدولة السورية من قضاة ومحامين ومعلمين وألزمهم بإعلان التوبة والخضوع لدورات شرعية، وفك ارتباطهم مع الدولة السورية. يقول المحامي مصطفى من ريف حلب: «أعدم التنظيم أحد الزملاء المحامين بتهمة التعامل مع المحاكم الوضعية الكفرية» وكانت نشاطات المحامي مقتصرة على تسيير الأمور العادية من نقل ملكية، وعقود زواج وما شابه، ويتابع: «كما قام التنظيم بتسليم جثة المحامي أبو كامل من مدينة من منبج وادعى أنه مات بنوبة قلبية».
وتضاف الى معاناة المواطن في مناطق التنظيم المعاملة السيئة على الحواجز، لا سيما إذا كان في سن الشباب، فيقوم المواطن بعدة إجراءات أمنية قبل عبور الحواجز بعد أن استفاد من أخطاء الآخرين، يقول غسان وهو طالب جامعي من مدينة منبج: «هناك أشياء أساسية قبل الرحلة إذ أقوم بتخفيف لحيتي، ولبس البنطال، وترك جوالي الحديث في البيت» ومنهم من يقوم بإزالة كرت الذاكرة، أو مسح المحتوى، بل ومسح الأسماء والاقتصار على الأسماء الضرورية، والسلاح الأبرز هو الصمت.
وتجري كثير من الحوادث المؤلمة الطريفة بسوداويتها على الحواجز، فيقول المدرس عمران من ريف حلب: «نضطر أحياناً الى تحميل بعض الصور والمقاطع على أجهزتنا لنحمي أنفسنا من حواجز التنظيم، وأثناء عبوري مع زوجتي وأولادي مناطق سيطرة الأكراد فتشوا جوال ابني ليجدوا صوراً وعمليات للتنظيم نسي ابني مسحها، فاتهموا العائلة كلها بأنها داعشية، ولا سيما أنَّ زوجتي وبناتي يرتدين اللباس الأسود الفضفاض الذي لا يسمح رؤية شيء منهن، ولم يصدقوا أنَّ اللباس الشرعي إجباري، وأنّ الصور ضرورة، وكدنا نتعرض للاعتقال لولا أني أعرف صديقاً من الحزب كان معي أيام الجامعة».
ويحدث السائق قاسم من ريف حلب الشرقي عن قصة أخرى قائلاً: «بعد أن عبرنا آخر حاجز للتنظيم باتجاه النظام أنبه الركاب كالعادة لأننا مقبلون على مناطق وحواجز النظام لأخذ الاحتياطات اللازمة سواء في جوالاتهم أو كلامهم، وأثناء مرورنا بأحد الحواجز كان معي رجل ممتقع اللون من خوفه، إذ كانت المرة الأولى التي يمر بها في مناطق النظام، وغالباً ما يتسلى العساكر والشبيحة بالركاب، فلما رآه أحد الشبيحة على هذه الحال طلب هويته، فزاد خوفه. وسأله أتحب الدولة والقائد (وقصد سورية وبشار)؟ فأجاب المسكين الذي فهم أنّ المقصود الدولة الإسلامية، والبغدادي، فالمواطنون في مناطق سيطرة التنظيم لا يجرؤون على أن يسموا التنظيم بداعش أو تنظيم الدولة: أعوذ بالله، أنا أكرههما كرهاً شديداً، واسأل الركاب. فانهال على المسكين بالضرب والشتائم. ولم أستطع إفهام الشبيح حيثيات الموضوع إلا بعد جهد جهيد، ولولا العلاقة التي نشأت بيننا –نحن السائقين- وبين الشبيحة نتيجة الرشوة التي يأخذونها منا لقتل المسكين».
في مناطق النظام أنت مضطر للصمت، والسكوت والامتثال لكل إجراءات النظام الأمنية، والرضا بالمظالم والاعتقالات التي يقوم بها، كي تستطيع العيش، وتعليم أبنائك، وحماية نفسك من القصف والمجازر التي تتعرض لها المناطق الأخرى، وإن كنت في مناطق الثوار فعليك دفع ضريبة باهظة من قصف جوي ومدفعي وصاروخي لكنك في المقابل تعيش نوعاً من الحرية، والقدرة على التنقل والحركة.