دروس التجربة التونسية

أعادت الانتخابات البرلمانية التي أجريت في تونس قبل يومين التذكير بأن «الربيع العربي» ما زال قادراً على طرح الثمار بعد موسم «الحصاد المر» الذي شهده العرب طيلة السنوات الثلاث الماضية. وأثبتت التجربة التونسية، حتى الآن، تفوقها على غيرها من التجارب الانتقالية التي جرت في المنطقة العربية منذ بدء الموجة الأولى للثورات قبل أربعة أعوام. ولكنها أيضاً أعادت طرح العديد من الأسئلة حول مدى صلاحية الفكرة الديموقراطية وإمكانية نجاحها في السياق العربي.

ومن دون مبالغة، فإن ما حدث في تونس ينطوي على أبعاد رمزية ومفارقات سياسية عدة لا يمكن المرور بها من دون التوقف وقراءة دلالتها وانعكاساتها على المنطقة. وهنا يمكننا الحديث عن خمسة أمور ودروس أساسية أولها، سقوط ثنائية «الفوضى أو الاستبداد». وهي الثنائية المقيتة التي ما فتئت الأصولية السلطوية تتبناها وترّوج لها في العالم العربي حتى من قبل بدء الموجة الأولى للتغيير وذلك في محاولة لوأد هذه الموجة قبل أن تبدأ وتشويهها بعد أن بدأت. وهي الأطروحة التي تبناها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير، وكذلك فعل ديكتاتور ليبيا السابق معمر القذافي، وهكذا يفعل الآن بشار الأسد في سورية. وهي أيضاً نفس الأطروحة التي يرّوج لها النظام الحالي في مصر ومثقفوه وحلفاؤه بشكل لا يخلو من المزايدات والتوظيف السياسي. صحيح أن ثمة حالة فوضوية تعم المنطقة من شرقها إلى غربها، لكنها فوضى ناجمة عن الجمود والتكلس والقمع وليس عن الرغبة في التغيير. وهي أشبه بانفجار كبير حدث بعد عقود من الكبت والصمت وانتهاك الحقوق والحريات ورفض كل مطالب ومحاولات التغيير السلمي. ومن المفارقات أن الموجة الأولى للربيع العربي قد أثبتت فشل نظرية «الاستقرار من أعلى» التي تبنتها الأنظمة السلطوية العربية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين وذلك بعدما انهارت هذه الأنظمة تحت صرخات الشباب التي هزّت ميادين التحرير والتغيير من تونس إلى صنعاء. التجربة التونسية كشفت لنا أن ثمة طريقاً ثالثاً يمكن سلوكه بعيداً عن طريقي الفوضى والاستبداد هو الطريق الديموقراطي. وهو ذات الطريق الذي سلكته قبلنا أمم ومجتمعات عدة وكان أقل كلفة للدولة والمجتمع على حد سواء. وهو طريق لم يخترعه التونسيون وإنما نجحوا في استكشافه والتمسك به بحكمة وذكاء حتى وصلوا ببلدهم إلى بر الأمان.

الدرس الثاني هو سقوط أسطورة «التنين الإسلامي» التي صنعها وتبناها وروّج لها، ولا يزال، السلطويون والعلمانيون العرب واستخدموها كفزّاعة لإجهاض الفكرة الديموقراطية وتشويهها داخلياً وخارجياً. فقد حلّ حزب «النهضة» الإسلامي ثانياً في الانتخابات البرلمانية بعد أن كان قد فاز بغالبية المقاعد في الانتخابات الماضية. وعلى رغم أن الحزب سيظل يلعب دوراً حيوياً في النظام السياسي الجديد في تونس، إلا أن خسارته للمرتبة الأولى كشفت أمراً بديهياً حاول البعض طمسه وهو أن حزب «النهضة» «مجموعة من البشر» تسري عليهم نواميس الكون وقوانينه من الفوز والهزيمة والصعود والهبوط، مثلهم في ذلك مثل بقية الأحزاب وذلك بعيداً عن «الأسطرة» و»التخويف». وإذا كانت قيادات «النهضة» قد تعلمت درساً جيداً مما حدث لأقرانهم في مصر، فقد جاء الدور على العلمانيين كي يتعلموا نفس الدرس وألا يقعوا في أخطاء أقرانهم المصريين التي أودت بالتجربة برمتها وأهمها الإقصاء والتهميش وتخوين كل المعارضين بشكل فاشستي مقيت.

أما الدرس الثالث فهو «الصندوق مقابل الرصاص». فقد أثبتت تجربة تونس أن «الصندوق»، وليس السلاح، هو الطريق الأقصر، والأفضل، والأنجع للتغيير. وهو درس موجه إلى الطرفين اللذين يهيمنان الآن على المشهد العربي: الأصولية السلطوية والأصولية الدينية. فقد نجح التونسيون لأنهم حيّدوا سلاح الدولة وأبعدوه عن الصراع السياسي المدني فلم يدعموا انقلاباً، ولم يستدعوا العسكر للسلطة. وهم بذلك رسخّوا سابقة مهمة في التاريخ العربي وهي أن الخلاف السياسي يمكن حلّه بعيداً عن البندقية والزي العسكري. كذلك وجهوا رسالة قوية لمن يحاولون «تديين» الصراع السياسي وتفخيخه أيديولوجيا بأن «الدين لله، والديموقراطية للجميع» وأن ما لا يحققه السلاح يمكن أن يتحقق بالصندوق. وهو ما ينزع أي غطاء عن أطروحة المتشددين بعدم نجاعة «الصندوق» أو الانتخابات كإحدى آليات إدارة الصراع بشكل سلمي.

أما الدرس الرابع، وربما الأهم، فهو إسقاط أسطورة «رجل واحد، صوت واحد، لمرة واحدة» وهي الأسطورة التي تم ترويجها لإبراز عدم التوافق بين الإسلام السياسي والديموقراطية والتي كان قد اخترعها وروّج لها السفير الأميركي الأسبق إدوارد جرجيان أوائل التسعينات بعد فوز جبهة «الإنقاذ» الإسلامية بالانتخابات النيابية في الجزائر قبل أن يتم الانقلاب عليها. فقد قدّم حزب «النهضة» صورة مغايرة لما يجري ترويجه حول فشل الإسلام السياسي في تبنّي قيم ومفاهيم الديموقراطية وعدم القبول بالتداول السلمي للسلطة. ولا يتعلق الأمر فقط بتقبل «النهضة» لنتائج الانتخابات وتهنئة قياداته لحزب «نداء تونس» على الفوز، وإنما أيضاً على الإصرار على تجاوز البعد الحزبي الضيق والتركيز على الإطار الأوسع المتعلق بمصلحة تونس كبلد وكوطن. وقد بات لدينا، ربما للمرة الأولى، في العالم العربي «إسلاميون وديموقراطيون» وهو ما يعطي الأمل بظهور تيار إسلامي جديد يشق طريقه بين الإسلاموية الأرثوذكسية بطبعتيها المتكلسة والمتشددة ويقدم أطروحات إيديولوجية وفكرية متقدمة قد تلهم كثيرين من الشباب المنتمي لهذا التيار بترسيخ قيم الحرية والديموقراطية والاندماج الحضاري.

وأخيراً، فقد أثبتت التجربة التونسية أن قطار التغيير يسير في طريقه الصحيح حتى وإن تعثر في بعض المحطات. وأن المتضررين من هذا التغيير (بقايا الاستبداد وفلوله) لن يعطلوا المسار الجديد الذي انطلق قبل أربعة أعوام وإن حققوا نجاحات موقتة هنا وهناك. والأهم من ذلك أن التجربة التونسية جددت الأمل بأن تضحيات الشباب العربي من أجل صنع مستقبل أفضل لن تضيع هباء.

+ -
.