دم من خلايا جذعية جنينية سينقذ البشر

عندما يقل الدم في الجسم، لسبب ما، يتعرض المصاب لاختلالات عدة نتيجة عدم وجود ما يكفي من كريات الدم الحمر لنقل الأوكسيجين إلى الخلايا، الأمر الذي يقود إلى أحداث دراماتيكية قد تنتهي بالوفاة.

وتقول منظمة الصحة العالمية أن أكثر من نصف مليون امرأة يموتون سنوياً أثناء الحمل والولادة أو بعد الولادة بسبب نقص التبرعات في الدم، وأن 99 في المئة من هذه الحالات تقع في الدول النامية.

وتبقى عملية نقل الدم الحل الأمثل للتغلب على مشكلة نقص الدم، التي يعانيها ملايين الأشخاص يومياً. ويتم تأمين الدم عن طريق التبرع، لكن ما زالت هناك مصاعب تعترض عملية التبرع على رغم التقدم الهائل الذي أحرزه العلماء على هذا الصعيد. وتتمثل هذه المصاعب بقلة المتبرعين، وقلة الكميات المتوافرة من الدم الطبيعي في بنوك الدم، وقصر مدة صلاحية الدم، وتوافق فصائله، والتكاليف المرتبطة بالفحوص اللازمة للتأكد من سلامة الدم المنقول، فضلاً عن الأخطار التي تنتج من الدم المنقول بحد ذاته، مثل التفاعلات الدموية، ونقل العدوى، وانهيار الدورة الدموية، وتشكل الجلطات، وزيادة نسبة الحديد في الدم، واختلال الشوارد.

وأمام المصاعب والمضاعفات التي يمكن أن يخلفها نقل الدم الطبيعي كان لا بد للعلماء من ابتكار الدم البديل الذي يقوم بجميع وظائف الدم الطبيعي. وبالمناسبة فإن فكرة الدم البديل ليست جديدة على الإطلاق، بل تعود إلى أكثر من خمسة عقود من الزمن، ومن وقتها والباحثون يعملون للتوصل إلى الدم الصناعي المثالي.

والمعروف عن الدم البشري أنه يضم مكونات شديدة التعقيد ويقوم بثلاث وظائف أساسية هي: نقل الأوكسيجين والغذاء، والتصدي للميكروبات، ووظيفة التجلط عند حدوث جرح في الجسم. وقد اصطدم العلماء بصعوبات جمة حالت دون إمكان إيجاد الدم الصناعي البديل المماثل للدم الطبيعي، من هنا كان تفكيرهم ينصب على فكرة إيجاد دم صناعي يسمح بنقل غاز الأوكسيجين وإعادة غاز ثاني أوكسيد الكربون من وإلى الخلايا المنتشرة في كل أصقاع الجسم.

وبالفعل استطاعت الشركات المهتمة تطوير الدم الصناعي في المختبر. ويقوم هذا الدم بوظيفة واحدة هي نقل الأوكسيجين من الرئتين إلى مختلف أنسجة الجسم، وهي وظيفة تحاكي تماماً ما تقوم به كريات الدم الحمر. ولا شك في أن قيام الدم الصناعي بهذه المهمة شكل قفزة نوعية لإنقاذ الناس من الصدمات المهددة للحياة وفي ساحات القتال وللمرضى الذين يحتاجون إلى نقل الدم المتكرر، خصوصاً الذين يعانون من فقر الدم المنجلي ومرض التلاسيميا.

منذ أكثر من 50 عاماً يطمح العلماء إلى الحصول على دم صناعي بديل للدم الطبيعي يغني عن الحاجة للتبرع بالدم. وكانت معظم التجارب السابقة التي أجريت على الدم الصناعي البديل مبشرة في البداية لكن سرعان ما تبين أنها تخلق مشاكل لم تكن متوقعة تقود إلى إعاقة وصول شحنات الأوكسيجين إلى الأنسجة المختلفة، وتضاعف من احتمالات الإصابة بالسكتات القلبية ومن احتمال الوفاة.

ونجح علماء سويديون في العام 2003 من نقل دم صناعي للمرة الأولى إلى مريض في مستشفى كارولينسا في العاصمة استوكهولم، وكل ما قيل وقتها أن دماً صناعياً نقل إلى جسم مريض خضع لجراحة، وأن تركيبه بسيط ويتألف من عناصر موجودة في الجسم البشري، لكن حتى الآن ما زال الصمت يلف ماهية الدم المنقول. لكن بعد سنوات من العمل الشاق في رحلة البحث عن الدم البديل أعلنت خدمة الصحة الوطنية في بريطانيا عن قرب إجراء أول تجربة نقل دم صناعي على عدد من المتطوعين في حلول العام 2017، بعد أن نجح العلماء من جامعة بريستول وأدنبرة في إنتاج كريات دم حمر صناعية في المختبر اعتباراً من الخلايا الجذعية. ويعتبر الحصول على دم صناعي بهذه الطريقة وسيلة فاعلة لعلاج المرضى الذين يعانون من اضطرابات دموية ويحتاجون إلى نقل دم متكرر. وقد يسمح مثل هذا الدم باستعماله في شكل روتيني، بغض النظر عن فصيلته ومن دون الحاجة إلى إجراء نقل دم حقيقي. لقد استطاع البحاثة في جامعتي بريستول وأدنبرة توجيه الخلايا الجذعية المأخوذة من نخاع العظم لتصبح خلايا دم أحمر يمكن استخدامها لدى البشر، لكن المشكلة الكبرى هي أن هذا الحجم من الخلايا لا يكفي، من هنا توجه العلماء نحو الخلايا الجذعية الجنينية التي تعتبر بمثابة «مفرخة» لكريات الدم الحمر. فحسب العلماء تستطيع الخلايا الجذعية التابعة لجنين واحد أن تلبي احتياجات بريطانيا كلها من الدم.

ويقول البروفسور مارك ترنر، مدير مركز خدمة نقل الدم الوطنية الاسكتلندية، الذي يترأس مشروع ابتكار كريات دم حمر في المختبر: «إن إنتاج علاج خلوي بمقاييس أمان ونوعية معينة للاستعمال البشري يشكل تحدياً كبيراً، لكن في حال تمكنا من النجاح في إنجاز تجربة سريرية على الإنسان فإن هذا سيشكل خطوة مهمة نحو الأمام لتمكين البشر في جميع أنحاء العالم من الاستفادة من عملية نقل الدم».

في المختصر، هناك أكثر من 90 مليون عملية نقل دم سنوياً، سواء في المعالجات أم لإنقاذ الحياة، فالدم هو المكون الأساس للحياة، كونه يقوم بوظائف حيوية أهمها نقل الأوكسيجين، والوظيفة المناعية، ووظيفة التجلط التي تحمي الدم من الضياع. وإذا ما نقصت كمية الدم في الجسم فإن الحياة تصبح مهددة ما يفرض إنقاذها بتعويض الدم، طبيعياً أو صناعياً، لكن تأمين الدم الطبيعي ما زال يصطدم بمصاعب ليست بالقليلة، أهمها ندرة المتبرعين، من هنا كان لا بد من إيجاد الحل البديل المتمثل في الدم الصناعي المنقذ للبشرية، فمثل هذا الدم لا يرفضه الجسم، ولا ينقل الميكروبات، ولا يحتاج إلى تطابق فصائل الدم، ويملك صلاحية طويلة، ويمكن حفظه في كل الظروف.

+ -
.