
يُعدُّ موقع “رجم الهري”، الواقع في هضبة الجولان، أحد أكثر المواقع الأثرية غموضًا في المنطقة. يتميز هذا الموقع ببنية دائرية ضخمة تتألف من عدة حلقات حجرية متراكزة، ما جعله يُعرف باسم “ستونهنج الجولان”، في إشارة إلى التشابه مع موقع “ستونهنج” الشهير في بريطانيا. لا يزال هذا المعلم الأثري يثير تساؤلات الباحثين حول وظيفته الحقيقية، إذ تتراوح الفرضيات بين كونه مرصدًا فلكيًا، أو موقعًا جنائزيًا، أو حتى معبدًا دينيًا قديمًا.
الموقع الجغرافي والتكوين المعماري
يقع “رجم الهري” على بعد نحو 16 كيلومترًا شرق بحيرة طبريا، في الجزء الأوسط من هضبة الجولان، قرية الشعبانية التي بنيت على أنقاضها مستوطنة “يوناتان”. يتألف من أربعة حلقات دائرية مبنية من حجارة بازلتية كبيرة، يحيط بها كومة حجرية مركزية ضخمة يبلغ ارتفاعها نحو 5 أمتار وقطرها حوالي 20 مترًا.
تتوزع الحلقات بشكل متناسق، حيث تمتد أكبرها إلى نحو 156 مترًا في القطر. الحجارة المستخدمة في البناء تزن مئات الكيلوغرامات، ما يدل على وجود تخطيط هندسي متقن وجهد بشري كبير في بنائه.
الوظيفة والغرض من البناء
حتى اليوم، لا يوجد إجماع بين الباحثين حول الغرض من بناء رجم الهري، لكن أبرز النظريات تشير إلى:
- مرصد فلكي قديم:
- تشير بعض الدراسات إلى أن الترتيب الدائري للحجارة قد يكون مرتبطًا بحركة الشمس والنجوم، مثل مواقع فلكية قديمة أخرى.
- هناك محاذاة واضحة لبعض ممرات الموقع مع شروق الشمس في الانقلاب الصيفي، مما يدعم هذه الفرضية.
- موقع جنائزي أو طقوسي:
- تم العثور على كومة حجرية مركزية تحتوي على غرفة دفن، ما يشير إلى احتمال استخدام الموقع كضريح لأحد الزعماء القدماء.
- الطبيعة الدائرية للبناء تتشابه مع مواقع قديمة استخدمت في الطقوس الدينية والتواصل مع القوى السماوية.
- مركز اجتماعي أو دفاعي:
- يقترح بعض الباحثين أن الموقع كان بمثابة نقطة تجمع اجتماعية أو سياسية للسكان القدماء.
- لم يُعثر على أدلة تدل على أنه كان حصنًا دفاعيًا، لكنه ربما استُخدم كمنطقة للاجتماعات أو الطقوس الدينية.
التاريخ والتأريخ الزمني
لم يتمكن العلماء من تحديد عمر الموقع بدقة، لكن التقديرات تشير إلى أنه يعود إلى العصر البرونزي المبكر (حوالي 3000-2700 قبل الميلاد). يعتمد هذا التأريخ على مقارنة أسلوب البناء مع مواقع أخرى في المنطقة، إضافة إلى بعض الأدلة الأثرية المحدودة التي تم العثور عليها.
التحديات واللغز المستمر
رغم الأبحاث العديدة، لا تزال هناك عدة أسئلة لم يُعثر لها على إجابة قاطعة، مثل:
- من هم بناة رجم الهري؟
- ما السبب الحقيقي وراء تشييده؟
- هل كان مرتبطًا بحضارة محلية أم بثقافات أخرى في الشرق الأدنى القديم؟
نظراً لغياب الكتابات أو النقوش التي يمكن أن توضح الهدف منه، يظل الموقع محطّ جدل وأبحاث مستمرة.
يُعد “رجم الهري” أحد أبرز الألغاز الأثرية في الشرق الأوسط، حيث يجمع بين الهندسة المعمارية الفريدة والغموض التاريخي. سواء كان مرصدًا فلكيًا، أو مزارًا دينيًا، أو موقعًا جنائزيًا، فإنه يشهد على براعة الحضارات القديمة التي سكنت هضبة الجولان. ومع استمرار الأبحاث، قد نتمكن يومًا ما من كشف أسرار هذا الصرح المثير للإعجاب.