الفنانة السورية التي لطالما رسمت بالقلم الرصاص بطريقة واقعية، لا تفكر بطريقة عملية كما قد يُخيل للبعض فهي تقاوم الذاكرة مثلما تقاوم بالقوة نفسها النسيان.
فنانة سورية تقاوم احتلال الذاكرة
“أفق خفيف” هو عنوان فيلمها القصير الذي شدّ إليها الأنظار. ولكن هل كان ذلك الأفق خفيفا حقا؟ سيكون علينا أن نعتبره فيلما روائيا، بالرغم من أنه يخلو من الحوار. فيلم روائي طويل بالرغم من قصره بسبب استغراقه في القبض على لحظة شقاء أبدية.
بطلته تمارس الحياة باعتبارها حدثا عبثيا لا يمكن تفاديه، بل ليس المطلوب تفاديه.
كتب الناقد البريطاني جون بيرجر وهو يخاطب رندا مداح “كأنك تحملين حصى الجولان بيسراك وبيمناك ترسمين أحشاءها” لم يكن ذلك تعليقا على الفيلم ذي المغزى الفلسفي العميق بالرغم من بساطته. فالفيلم الذي صور بكاميرا ثابتة هو عبارة عن مشهد واحد، لم تنجح الريح في تغييره.
الخراب الذي يؤسس للنسيان
امرأة تنظف أرضية بيتها الذي هدمته الحرب. تلك المرأة لا تفكر في سؤال من نوع “ما الذي تفعله؟” فهي لا ترى أهمية لذلك السؤال. ذلك لأنها صارت محكومة بأن تقوم بما تفعله تعبيرا منها عن شعورها بأنها لا تزال حية.
وبالرغم من أن مداح ولدت ومدينتها محتلة فهي لا تعرف شيئا عن مدينتها خارج قفص الاحتلال فإنها تجيد اللغة التي تكشف من خلالها عن ذلك “التضاد” الذي يستند في الطرف الآخر من معادلته إلى معرفة عميقة بالحرية.
في دقائق قليلة تزاوج رندا بين الألم والمقاومة فتقول كل شيء عن ذلك الوجود الإنساني العميق الذي تخطى بدلالاته كل ما علق به من مقولات سياسية. فذلك البيت التي تقوم المرأة بتنظيفه ليس بيتا مؤجلا بل هو بيت اللحظة الراهنة التي لا تقع في زمن بعينه. وهو ما يعني أن الأمر لا يتعلق بحروب، طرفاها الذاكرة والنسيان.
لا تفكر الفنانة التي لطالما رسمت بالقلم الرصاص بطريقة واقعية، عملية كما قد يُخيل للبعض. فهي تقاوم الذاكرة مثلما تقاوم بالقوة نفسها النسيان. هناك ما يجعلها تشعر بالوحشة إذا لم تستنفر قواها من أجل “مديح الحياة الحقة” وهو ما تعلمته من أجل أن تخلص لفعل المقاومة.
في معرضيها “ربطة شعر” برام الله و”ترميم” بباريس كانت نحاتة ورسامة، غير أنها في الحالين كانت قد أشهرت عن نزعتها التي تتخطى الرسم والنحت لتصل إلى إعادة تركيب الكائن الذي يفاجئ نفسه بحضوره المدوّي.
بالنسبة لها وهي التي اختبرت ما الذي يعنيه أن تكون الحياة أشبه بمسرح العرائس فإن الدمية هي الكائن الحي الوحيد الذي يمكنه أن يقول الحقيقة. حقيقته وحقيقة الآخرين.
بحثا عن مكان خفي
أعمال مداح تستعيد جزءا من تجربة الفنانة الفرنسية “الأميركية” لويزا بورجوا التي كانت مولعة بتعليق منحوتاتها البشرية بخيوط تتدلى من السقف
تعذب مداح مشاهدي أعمالها حين لا تطري ذائقتهم الجمالية بل تفتتها وتهلكها، وهي في ذلك إنما تروّج لعذابها الذي يتعامل معه الكثيرون باعتباره مناسبة لإحياء الذاكرة.
ولدت مداح في قرية مجدل شمس بالجولان المحتل عام 1983. بعد أن أنهت دورة في النحت والرسم في مركز أدهم إسماعيل بدمشق عام 2003 انتقلت على كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق لتدرس النحت ما بين عامي 2005 و2007. انضمت بعدها إلى دورة أقيمت في القدس لتعلم فن الغرافيك. توزع نتاجها الفني بين الرسم والنحت وصناعة الأفلام.
أقامت معرضها الشخصي الأول “ربطة شعر” برام الله عام 2016. تضمّن ذلك المعرض منحوتات نُفذت بالبرونز والطين والجبس. أما معرضها الثاني وكان بعنوان “ترميم” فإنها أقامته بباريس عام 2018 وتضمّن أعمالا نُفذت من خلال فني الفيديو والفوتوغراف، إضافة إلى إنجاز أعمال أسمنتية.
سلّطت الفنانة في ذلك المعرض الضوء على مقاربة الهدم والترميم. هدم المكان واقعيا والفشل في محاولةإحيائه في الذاكرة. أقامت أيضا معرضا من غير عنوان في قاعة “أوربيا” بباريس أثناء إقامتها الفنية هناك. كان ذلك المعرض مخصّصا لأعمال نُفذت بالرصاص على الورق. حصلت رندا على جائزة الامتياز من مؤسسة تاكيفوجي اليابانية.
تركّز مداح في أعمالها على الصدمة التي تنطوي عليها سرديات العلاقة بالمكان الذي تم إخفاؤه بطريقة مقصودة.
بالنسبة لمداح فإن الموضوع الذي يشغلها لا يتعلق بحرب هويات. لا تظهر الفنانة حماسة للدفاع عن هويتها السورية في مواجهة الضم الإسرائيلي للجولان. هناك شيء له علاقة بالبعد الإنساني لوجودها المعلّق يدفعها إلى رفض منطق الاحتلال.
نموذج لجمال مضاد
بالنسبة لمداح فإن الموضوع الذي يشغلها لا يتعلق بحرب هويات
تكمن قيمة الدفاع عن فكرة أن يكون الإنسان حرا ومستقلا ولا يتم تحريكه عن طريق خيوط كما يحدث للدمية في مسرح العرائس.
العالم ليس مسرحا والحياة ليست مسرحية. تسعى الفنانة إلى مزج الشقاء بالسخرية من أجل أن تقف على الضفة المضادة.
صحيح أنها استلهمت حياتها الواقعية، غير أنها اهتدت عن طريق الفن إلى اللغز الذي تنطوي عليه إقامة المرء في مكانين، بالرغم من أنهما يبدوان كما لو أنهما مكان واحد. المكان نفسه. تلك مسألة ذات بعد إنساني، نجحت رندا في وضعها على طاولة التشريح لتمسك من خلالها بعناصر شخصيتها التي تكوّنت في ظل الاحتلال من غير أن تنقطع عن أصولها.
مداح هي ابنة ذلك التناقض وهي في الوقت نفسه صانعة معادلاته. الفنانة التي لا تصرّ على أن تستعيد هويتها بقدر ما يهمها أن تصنع تلك الهوية.
إنها تمد يدها إلى عجينة لم يجرؤ على استعمالها أحد من قبل. الإنسان باعتباره سيد مصيره. لذلك فإنها لا تباغي في وطنيتها، بل أنها لا تتخذ من تلك الوطنية عصا تتوكأ عليها من أجل شراء تعاطف المتلقي. تقاوم مداح تلك العاطفة المستباحة. لديها دائما ما تقوله خارج المساحات المشتركة. نزعتها الفردية تفرض عليها أن تكون حرة ف ما تقول بعد أن حررها الاحتلال من الخطاب الرسمي. تناقض آخر لن تكون معنية في الدفاع عنه.
تستعيد مداح جزءا من تجربة الفنانة الفرنسية “الأميركية” لويزا بورجوا التي كانت مولعة بتعليق منحوتاتها البشرية بخيوط تتدلى من السقف وهو ما فعلته مداح. غير أن هناك فارقا كبيرا في القصد بين الفنانتين. فبورجوا لم تتخط الجانب الشكلي لمسالة العرض، فيما ذهبت مداح بعيدا حين فعلت ذلك مدفوعة بأسباب فلسفية عميقة سبق لي أن تناولتها حين الإشارة إلى مسرح العرائس.
وإذا ما كانت متمكنة من حرفتها رسامة ونحاتة وهو ما صار أمرا مثيرا في ظل انخفاض مستوى الحرفة لدى معظم الفنانين عبر العقود الثلاثة الماضية فإن طريقتها في التفكير في الفن تتجاوز حدود المعالجة التقليدية للمواد والعناصر والموضوعات. فهي ومن بدء تجربتها الفنية كانت تميل إلى التعامل مع الفنون المعاصرة إلى جانب عدم تحليها عن الرسم والنحت. وهو ما بدا واضحا في عروضها.
ما فعلته مداح على هذا المستوى يستحق المديح لما انطوت محاولتها من تجديد تمثل في إقامة وشائج بين فني الرسم والنحت والفنون المعاصرة التي لم تعد مجرد تقنيات بل هي طرق ثورية جديدة في التفكير في الفن ومن خلاله، يتجاوز الفنان من خلالها العلاقة التقليدية بين والمجتمع والتي كانت قائمة على فرض الجمال سعيا وراء النموذج الكامل.
لقد تعلمت من الشقاء دروسا عديدة. وما انفتاحها على مناطق ملغومة بالأسئلة إلا واحدا من تلك الدروس. بالنسبة لها فإن الفن في جوهره لا يشرح ولا يجيب لا يشيع الاطمئنان. وضعت موهبتها في خدمة قضية ذات خصوصية، غير أنها عن طريق إخلاصها للفن نجحت في الكشف عن البعد الإنساني الشامل لتلك القضية.
كل الاحترام رندا ومن نجاح الى نجاح أكبر