رندا مداح فنانة تقاوم احتلال الذاكرة

كتب فاروق يوسف في الجديد

“أفق خفيف” هو عنوان فيلمها القصير الذي شد إليها الأنظار. ولكن هل كان ذلك الأفق خفيفا حقا؟ سيكون علينا أن نعتبره فيلما روائيا، بالرغم من أنه يخلو من الحوار. فيلم روائي طويل بالرغم من قصره بسبب استغراقه في القبض على لحظة شقاء أبدية. بطلته تمارس الحياة باعتبارها حدثا عبثيا لا يمكن تفاديه، بل ليس المطلوب تفاديه.

كتب جون بيرجر وهو يخاطب رندا مداح “كأنك تحملين حصى الجولان بيسراك وبيمناك ترسمين أحشاءها” لم يكن ذلك تعليقا على الفيلم ذي المغزى الفلسفي العميق بالرغم من بساطته. فالفيلم الذي صور بكاميرا ثابتة هو عبارة عن مشهد واحد، لم تنجح الريح في تغييره.

  • الخراب الذي يؤسس للنسيان

امرأة تنظف أرضية بيتها الذي هدمته الحرب. تلك المرأة لا تفكر في سؤال من نوع “ما الذي تفعله؟” فهي لا ترى أهمية لذلك السؤال. ذلك لأنها صارت محكومة بأن تقوم بما تفعله تعبيرا منها عن شعورها بأنها لا تزال حية.

وبالرغم من أن مداح ولدت ومدينتها محتلة فهي لا تعرف شيئا عن مدينتها خارج قفص الاحتلال فإنها تجيد اللغة التي تكشف من خلالها عن ذلك “التضاد” الذي يستند في الطرف الآخر من معادلته إلى معرفة عميقة بالحرية.

في دقائق قليلة تزاوج رندا بين الألم والمقاومة فتقول كل شيء عن ذلك الوجود الإنساني العميق الذي تخطى بدلالاته كل ما علق به من مقولات سياسية. فذلك البيت الذي تقوم المرأة بتنظيفه ليس بيتا مؤجلا بل هو بيت اللحظة الراهنة التي لا تقع في زمن بعينه. وهو ما يعني أن الأمر لا يتعلق بحروب، طرفاها الذاكرة والنسيان.

مداح فنانة تقاوم الذاكرة مثلما تقاوم بالقوة نفسها النسيان
مداح فنانة تقاوم الذاكرة مثلما تقاوم بالقوة نفسها النسيان

لا تفكر الفنانة التي لطالما رسمت بالقلم الرصاص بطريقة واقعية، عملية كما قد يُخيل للبعض. فهي تقاوم الذاكرة مثلما تقاوم بالقوة نفسها النسيان. هناك ما يجعلها تشعر بالوحشة إذا لم تستنفر قواها من أجل “مديح الحياة الحقة” وهو ما تعلمته من أجل أن تخلص لفعل المقاومة.

في معرضيها “ربطة شعر” برام الله و”ترميم” بباريس كانت نحاتة ورسامة، غير أنها في الحالين كانت قد أشهرت عن نزعتها التي تتخطى الرسم والنحت لتصل إلى إعادة تركيب الكائن الذي يفاجئ نفسه بحضوره المدوّي.

بالنسبة إليها، وهي التي اختبرت ما الذي يعنيه أن تكون الحياة أشبه بمسرح العرائس، فإن الدمية هي الكائن الحي الوحيد الذي يمكنه أن يقول الحقيقة. حقيقته وحقيقة الآخرين.

تعذب رندا مداح مشاهدي أعمالها حين لا تطري ذائقتهم الجمالية بل تفتتها وتهلكها وهي في ذلك إنما تروّج لعذابها الذي يتعامل معه الكثيرون باعتباره مناسبة لإحياء الذاكرة.

  • بحثا عن مكان خفي

ولدت رندا مداح في قرية مجدل شمس بالجولان المحتل عام 1983. بعد أن أنهت دورة في النحت والرسم في مركز أدهم إسماعيل بدمشق عام 2003 انتقلت إلى كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق لتدرس النحت ما بين عامي 2005 و2007. انضمت بعدها إلى دورة أقيمت في القدس لتعلم فن الكرافيك. توزع نتاجها الفني بين الرسم والنحت وصناعة الأفلام.

أقامت الفنانة معرضها الشخصي الأول “ربطة شعر” برام الله عام 2016. تضمن ذلك المعرض منحوتات نُفّذت بالبرونز والطين والجبس. أما معرضها الثاني وكان بعنوان “ترميم” فإنها أقامته بباريس عام 2018 وتضمن أعمالا نُفذت من خلال فني الفيديو والفوتوغراف إضافة إلى إنجاز أعمال إسمنتية. سلطت الفنانة في ذلك المعرض الضوء على مقاربة الهدم والترميم. هدم المكان واقعيا والفشل في محاولة إحيائه في الذاكرة. أقامت أيضا معرضا من غير عنوان في قاعة “أوربيا” بباريس أثناء إقامتها الفنية هناك. كان ذلك المعرض مخصصا لأعمال نُفذت بالرصاص على الورق. حصلت رندا على جائزة الامتياز من مؤسسة تاكيفوجي اليابانية.  

تركز مداح في أعمالها على الصدمة التي تنطوي عليها سرديات العلاقة بالمكان الذي تم اخفاؤه بطريقة مقصودة.       

  • صانعة معادلة هويتهاالخراب الذي يؤسس للنسيان (لوحة رندا مداح)

بالنسبة إلى رندا مداح فإن الموضوع الذي يشغلها لا يتعلق بحرب هويات. لا تظهر الفنانة حماسة للدفاع عن هويتها السورية في مواجهة الضم الإسرائيلي للجولان. هناك شيء له علاقة بالبعد الإنساني لوجودها المعلق يدفعها إلى رفض منطق الاحتلال. هنا بالضبط تكمن قيمة الدفاع عن فكرة أن يكون الإنسان حرا ومستقلا ولا يتم تحريكه عن طريق خيوط كما يحدث للدمية في مسرح العرائس. العالم ليس مسرحا والحياة ليست مسرحية. تسعى الفنانة إلى مزج الشقاء بالسخرية من أجل أن تقف على الضفة المضادة.

صحيح أن الفنانة استلهمت حياتها الواقعية غير أنها اهتدت عن طريق الفن إلى اللغز الذي تنطوي عليه إقامة المرء في مكانين، بالرغم من أنهما يبدوان كما لو أنهما مكان واحد. المكان نفسه. تلك مسألة ذات بعد إنساني، نجحت رندا في وضعها على طاولة التشريح لتمسك من خلالها بعناصر شخصيتها التي تكونت في ظل الاحتلال من غير أن تنقطع عن أصولها.

رندا مداح هي ابنة ذلك التناقض وهي في الوقت نفسه صانعة معادلاته. الفنانة التي لا تصر على أن تستعيد هويتها بقدر ما يهمها أن تصنع تلك الهوية. إنها تمد يدها إلى عجينة لم يجرؤ على استعمالها أحد من قبل. الإنسان باعتباره سيد مصيره. لذلك فإنها لا تبالغ في وطنيتها، بل إنها لا تتخذ من تلك الوطنية عصا تتوكأ عليها من أجل شراء تعاطف المتلقي. تقاوم رندا تلك العاطفة المستباحة. لديها دائما ما تقوله خارج المساحات المشتركة. نزعتها الفردية تفرض عليها أن تكون حرة في ما تقول بعد أن حررها الاحتلال من الخطاب الرسمي.       

تناقض آخر لن تكون رندا معنية في الدفاع عنه.

  • نموذج لجمال مضاد

تستعيد رندا مداح جزءا من تجربة الفنانة الفرنسية “الأميركية” لويزا بورجوا التي كانت مولعة بتعليق منحوتاتها البشرية بخيوط تتدلى من السقف وهو ما فعلته رندا. غير أن هناك فارقا كبيرا في القصد بين الفنانتين. فبورجوا لم تتخط الجانب الشكلي لمسألة العرض فيما ذهبت رندا بعيدا حين فعلت ذلك مدفوعة بأسباب فلسفية عميقة سبق لي أن تناولتها حين الإشارة إلى مسرح العرائس.     

وإذا ما كانت مداح متمكنة من حرفتها رسامة ونحاتة وهو ما صار أمرا مثيرا في ظل انخفاض مستوى الحرفة لدى معظم الفنانين عبر العقود الثلاثة الماضية فإن طريقتها في التفكير في الفن تتجاوز حدود المعالجة التقليدية للمواد والعناصر والموضوعات. فهي ومن بدء تجربتها الفنية كانت تميل إلى التعامل مع الفنون المعاصرة إلى جانب عدم تخليها عن الرسم والنحت. وهو ما بدا واضحا في عروضها.

ما فعلته رندا على هذا المستوى يستحق المديح لما انطوت عليه محاولتها من تجديد تمثل في إقامة وشائج بين فني الرسم والنحت والفنون المعاصرة التي لم تعد مجرد تقنيات بل هي طرق ثورية جديدة في التفكير في الفن ومن خلاله، يتجاوز الفنان من خلالها العلاقة التقليدية بينه والمجتمع والتي كانت قائمة على فرض الجمال سعيا وراء النموذج الكامل.

لقد تعلمت رندا من الشقاء دروسا عديدة. وما انفتاحها على مناطق ملغومة بالأسئلة إلا واحد من تلك الدروس. بالنسبة إليها فإن الفن في جوهره لا يشرح ولا يجيب لا يشيع الاطمئنان.  

وضعت رندا موهبتها في خدمة قضية ذات خصوصية، غير أنها عن طريق إخلاصها للفن نجحت في الكشف عن البعد الإنساني الشامل لتلك القضية.   

+ -
.