أعادت «المنظمة العربية للترجمة» إصدار كتاب «روح الشرائع» للفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، والذي سبق ان ترجمه الى اللغة العربية في الخمسينات من القرن الماضي كل من عادل زعيتر وأنطوان نخله قازان، بالتعاون مع «اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو». يعتبر الكتاب واحداً من أمهات الكتب الفلسفية، ولعب دوراً في بلورة الفكر السياسي لمرحلة الأنوار الأوروبية خلال القرن الثامن عشر.
لا يزال كتاب «روح الشرائع» حتى اليوم مرجعاً في الفكر السياسي الحديث على رغم مرور أكثر من مئة وخمسين عاماً على صدوره، كما لا يزال مونتسكيو يتصدر طليعة مفكري الأنوار الى جانب روسو وفولتير وديدرو وغيرهم من مفكري وفلاسفة ذلك الزمان، ما يعني اننا أمام كتاب راهن في الكثير من المسائل التي طرحها.
يشير مونتسكيو في تقديم كتابه الى محاذير سترافق طروحاته، قبولاً او رفضاً، فنراه مضطراً الى توضيحات تساهم في تعيين أهداف الكتاب ومقاصده، فيقول: «بدأت باختبار الناس، واعتقدت انهم، في تلك الغمار من تنوع القوانين واختلاف الطبائع لم يكونوا مسيرين بأهوائهم فقط وحسب. وضعت مبادئ، وشاهدت الحالات الخاصة، يخضع لها كما لو كان ذلك من تلقائها، ولمست ان تواريخ الأمم كافة ليست غير نتائج لها، وأن كل قانون خاص مرتبط بقانون آخر او هو تابع لقانون آخر أعم. ولما دعيت ثانية الى البحث في مطاوي القرون القديمة حاولت ان آخذ بروحها تقية ان أعد متشابهاً ما هو مختلف من الأحوال في الحقيقة، ولئلا يفوتني اختلاف ما يلوح تشابهه منها. ولم استنبط مبادئي من مبتسراتي، بل استنبطتها من طبيعة الأمور. ولا يتضح كثير من الحقائق هنا الا بعد ان ترى السلسلة التي تربطها بحقائق أخرى، وكلما أمعن النظر في التفاصيل تأكدت صحة المبادئ».
عندما يذكر اسم مونتسكيو، يتبادر الى الذهن فوراً نظرية فصل السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، في وصفها أحد العناصر المقررة لمنع قيام دولة استبدادية. استقى مونتسكيو نظريته من معاينته للتاريخ السياسي البشري على امتداد قرون سابقة، ثم توجهاً بقراءة الأنظمة السياسية في اوروبا التي كان الحاكم فيها يجمع بين يديه مختلف السلطات، بما يجعل منه مستبداً وفردياً في ممارسته للسلطة. ستشكل نظرية فصل السلطات ملهماً لفكر الأنوار السياسي ولمبادئ الحكم الصحيح، والأكثر من ذلك، ستشكل النظرية أحد أعمدة الديموقراطية في النظام السياسي. وعلى رغم مرور فترة زمنية بعيدة على نظرية فصل السلطات، الا انها لاتزال تشكل شرطاً لقيام نظام ديموقراطي، وحاجزاً في وجه الحكم الفردي ومانعة للاستبداد السياسي. لا يمكن وضع دستور قائم على الحكم البرلماني او الرئاسي من دون ان تتصدر مواد الدستور فيه نظرية الفصل بين السلطات الثلاث.
لكن كتاب «روح الشرائع» لا يقتصر على نظرية فصل السلطات، فهو كتاب متشعب يظهر فيه مونتسكيو فيلسوفاً سياسياً، وعالماً اجتماعياً، وباحثاً جغرافياً، وعالماً انتروبولجياً… ما يجعل من الكتاب موسوعة قائمة بذاتها حول السياسة والجغرافيا وعلم الأجناس، اضافة الى التبحر في أشكال الملكية وقوانين الضرائب… يعالج صلة القوانين بمختلف الموجودات، فيتطرق الى قوانين الطبيعة والقوانين الوضعية. ينتقل منها ليناقش طبيعة الحكومات القائمة، فيرى ان للحكومة الجمهورية قوانينها الخاصة بالديموقراطية، حيث السلطة ذات السيادة فيها للشعب بمختلف فئاته. أما القوانين الخاصة بطبيعة الأرستقراطية فهي منوطة بعدد من الأشخاص الذين يسنون القوانين وينفذونها، «ولا يكون سائر الشعب لديهم، في أحسن الحالات، الا كما الرعية لدى الملك في الملكية». اما الحكومة الملكية، فتتكون طبيعتها من السلطات المتوسطة والتابعة والخاضعة، اي طبيعة الحكومة التي يحكم فيها فرد بقوانين أساسية، حيث الأمير هو مصدر كل سلطة سياسية ومدنية. اما الدولة المستبدة، فينشأ عن طبيعة السلطة فيها ان الإنسان الذي يمارسها وحده يجعلها تمارس أيضاً من قبل شخص واحد، «ومن الطبيعي ان يكون الرجل الذي تحدثه كل واحدة من حواسه الخمس بأنه كل شيء، وبأن الآخرين ليسوا شيئاً، مكسالاً جاهلاً وشهوانياً، فيهمل أعماله إذن، ولكنه اذا ما وكلها الى كثيرين تنازعوا، ونسج كل منهم مكايد».
كما لم يوفر مونتسكيو التطرق الى قوانين الرق والعبودية، ودور الثقافات السائدة على طبيعة الأنظمة والقوانين التي تقوم عليها الدولة. يشير الى ما يجب ان يتمتع به المشترع من روحية في وضعه للقوانين فيقول: «إنه يجب ان يسود الاعتدال روح المشترع، وأخال انني لم اضع هذا السفر الا لإثبات ذلك، فالخير السياسي، كالخير الخلقي، يكون بين حدين دائماً. أن شكليات العدل ضرورية للحرية، ولكن عددها قد يكون من الكثرة ما يؤذي معه غاية القوانين التي سنّتها، فلا يكون للقضايا نهاية، وتظل ملكية الأموال حائرة، فيعطى أحد الخصمين مال غيره بلا تدقيق، او يدهور الخصمان بسبب الإمعان في التدقيق. ويفقد الأهلون حريتهم وسلامتهم، ويفوت الشاكين وسائل الإقناع، والمهتمين وسائل التبرئة».
يتطرق مونتسكيو إلى تأثير الأرض في طبيعة القوانين، حيث يرى ان جودة الأرض في بلد ما تفضي الى الخضوع، يعتبر ان أهل الأرياف الذين يؤلف منهم الجزء المهم من الشعب ليسوا شديدي الغيرة على حريتهم، بالنظر الى كثرة اشتغالهم وانهماكهم في شؤونهم الخاصة، فالأرياف الطافحة أرزاقاً تخشى السلب وتخشى الجيش. يستشهد بقول للفيلسوف اليوناني شيشرون الذي يقول :»ممن يؤلف الفريق الصالح؟ انهم رجال التجارة والأرياف الذين، اذا لم نتصور معارضتهم للملكية، نرى تساوي كل الحكومات عندهم، شرط ان يتوافر لهم الهدوء».
اذا كان كثير من القضايا التشريعية والقانونية التي أثارها مونتسكيو في كتابه قد تجاوزها الزمن بعد مئة وخمسين عاماً على صدوره، الا ان المنهج الذي اتبعه في طرح العناصر التي تتدخل في صياغة القوانين لا تزال حية، وتشكل قاعدة للتشريعات في كل بلد. وتبقى نظرية فصل السلطات حية اليوم لدى كل نظام يسعى الى ان تكون الديموقراطية قاعدة للسلطة فيه، حيث لا وجود للديموقراطية ونظامها من دون الأخذ بفصل السلطات.