روسيا إذ تستعجل نهاية القرن!

في المعركة السياسية مع الغرب استفادت روسيا من ضعف إدارة الرئيس أوباما وتردده في معالجة القضايا الدولية، وذلك على عكس المعركة الاقتصادية التي لا تتوقف القرارات فيها على أوباما فحسب.

فبعد تحريك روسيا لقواتها العسكرية في أوكرانيا وإشهار ورقة إمداد الغاز بوجه أوروبا تحرّك في المقابل قطار العقوبات الإقتصادية الذي أضيف إليه مؤخراً انخفاض سعر برميل النفط. هذه المتغيرات على المستوى الاقتصادي تقرأها روسيا باعتبارها هجمة جديدة تهدف إلى الضغط عليها ونقل اهتماماتها إلى الداخل بعدما اطلعت بأدوار أظهرتها بأنها شريك متكافئ في عدد من الأزمات على المستوى الدولي. طبعاً روسيا تضع نفسها في موقع المسؤولية بمواجهة عالم أحادي القطب سياسياً، وبالتالي فهي المسؤولة عن تبوؤ موقع القيادة وطرح البدائل وتكوين محاور لمواجهة التفرّد الأميركي بحسب ما تطرحه الدبلوماسية الروسية أينما حلّت.

وبغض النظر عن تداعيات كل ذلك على الإقتصاد الروسي الذي يقلد، باعتماد دخله الرئيس على الثروات المستخرجة، خصائص اقتصادات الدول النامية، وعن قدرة روسيا على الصمود وإيجاد البدائل، فإن أمراً واحداً أصبح جلياً ولا لبس فيه وهو أن روسيا دخلت مبكراً إلى هذا السباق مع الغرب في لعبة تحمل إمكانية اضعاف موقعها ودورها في النظام العالمي وذلك رغم التحالفات الاقتصادية التي تحاول نسجها في ظل نظام مالي ودولي معروفة تبعيته.

على هذا المستوى برز في روسيا أيام بوتين نمطان من التعاطي مع الاقتصاد، واحد يكرس ديبلوماسية خارجية من أجل تطوير الاقتصاد وفتح أسواق جديدة وصياغة علاقات تجارية على قاعدة الانفتاح السياسي، وآخر يستثمر الميزات الاقتصادية في سبيل بناء موضعية سياسية مناهضة للغرب على الصعيد الدولي (هذا المنحى الذي كرسه كارتيل الغاز في روسيا عندما هدد بوقف إمداد أوروبا خلال أزمة أوكرانيا).

هذه الثغرة الاقتصادية كان اكتشفها الرئيس ميخائيل غورباتشوف حين أقر بأن مركزية الاقتصاد غالباً ما تُعطّل التجارة في الأسواق العالمية، وخلص إلى أن العزلة الاقتصادية والانغلاق السياسي لا يتيحان الصمود بوجه الاتجاه الدولي في الانفتاح وتعزيز حرية التجارة. وعلى رغم إدراكه لهذه المعضلات إلا أن عملية التحول كانت صعبة للغاية فاستحالت إمكانية القفز من فوق المسؤوليات التي ترتبت على الاتحاد السوفياتي نتيجة سباقه مع الغرب. مسؤوليات تتحملها موسكو هذه الأيام التي عليها مواجهة العقوبات، وتنويع مصادر الدخل، والإنفاق في القرم بعد ضمها، ورعاية الشعوب ذات الأصول الروسية التي وعدتها بالانفصال في شرق أوكرانيا، ثم عليها تعزيز حضورها في ملفات ساخنة مثل سورية ومحاربة الإرهاب.

وضعية التناقض بين «السياسة المستقلة» و «الاقتصاد المُرتبِط» كانت تفترض على القادة الروس، العمل وفقاً للمبدأ الذي تحدث عنه غورباتشيف آنذاك وهو «امتلاك فن التعايش» حيث «ان التبعية المتبادلة تنشأ في ظل العلاقات الاقتصادية وهذه التبعية المتبادلة تنعكس فيما بعد عند حل القضايا السياسية».

هذا الاتجاه من الاقتصاد السياسي ربما لم يعكس نفسه على ديبلوماسية الرئيس بوتين التي رفعت من مستوى الترابط بين المؤسسات الاقتصادية الكبيرة (لا سيما في مجال الطاقة) من جهة والسياسات الحكومية من جهة أخرى. بهذا المعنى فالرئيس بوتين يدير اقتصاداً موجّهاً، وهو في معرض تبريره لاعتماد الاقتصاد على قطاع النفط أكد خلال كلمة له مؤخراً بأن «إنشاء قطاع تجاري حقيقي غير نفطي في روسيا أمرٌ صعب، فما زال قطاع الطاقة يحقق أرباحاً كبيرة». وكالعادة أحال أسباب الأزمة الاقتصادية في روسيا إلى العوامل الخارجية.

التورط الروسي في أوكرانيا الذي يشبّهه بعض المراقبين بالتورط في أفغانستان التي احتلها الجيش السوفياتي عشر سنوات (1979-1989) يأتي في سياق البناء النظري الذي اعتمده الرئيس بوتين في شكل موازٍ للاقتصاد المُوَجّه والذي يقرأ في التحولات التي تجري في محيط روسيا والعالم باعتبارها تشكل تهديداً لروسيا ووحدتها وهي بمثابة «الثورة المضادة» على تقدّم روسيا في الساحة الدولية، من هنا أتى تحذيره من «العواقب الكارثية لما يعرف بالثورات الملونة».

قبل 5 سنوات اعتبر يفغيني بريماكوف، رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق أنه «لا يمكن لنا أن نخسر أوكرانيا مهما كانت الظروف السياسية». بهذا القدر تكتسب أوكرانيا موضعية مميزة بالنسبة لروسيا، لكن هذه الموضعية مرتبطة بالتوجه الامبرطوري الذي تعاقب على الروس عبر التاريخ وهو توجّه معاكس لحركة التحولات التي تأخذ مكانها حتى في روسيا عبر طرح المسألة الاقتصادية كأولوية. طبعاً أوكرانيا وجدت مصالحها بالشراكة مع أوروبا واختارت التحرر من التبعية لموسكو التي لم يكن لديها خيار إلا المواجهة.

روسيا لا يمكن لها العودة إلى الوراء، فارتباطها بالاقتصاد العالمي «الأحادي القطب» كان المتنفس الذي انتشلها من أزماتها في المرحلة التي أعقبت التحولات في أوروبا الشرقية، والتوجه نحو الشرق لا يشكل بديلاً عن حاجتها إلى التعاون مع الغرب، أما اقتصاد الحرب الذي أسقط الاتحاد السوفياتي فقد كان يحمل خصائص الدول الصناعية الكبرى بتوازن اعتماده على الصناعة والزراعة والمصادر المستخرجة لكنه حمل في المقابل عقلاً مركزياً إضافة إلى ظلماً اجتماعياً أسس لانهياره.

ثمة ما يستدعي المقارنة بين القرن الماضي الذي انقضى في نهاياته بانهيار الحلم السوفياتي وبين الخمسة عشر عاماً الأولى من هذا القرن التي بدأ فيها الزمن بالتباطؤ نتيجة استعجال بوتين لاستعادة أمجاد الامبراطورية وحرق المراحل.

+ -
.