روسيا ما بين التنظيم الرائع والواقع الجديد لكرة القدم العالمية

Kremlin.ru [CC BY 4.0  (https://creativecommons.org/licenses/by/4.0)], via Wikimedia Commons
Kremlin.ru [CC BY 4.0 (https://creativecommons.org/licenses/by/4.0)], via Wikimedia Commons

انتهى كأس العالم وانتهى شهر العيد الكروي الكبير وسط احتفالات تاريخية للشعب الفرنسي. الديوك حققوا كأس العالم للمرة الثانية في تاريخيهم وكرروا انجاز زين الدين زيدان ورفاقه في مونديال فرنسا 1998. تتعدد الآراء حول كيفية الفوز بهذه النسخة التاريخية، فالمنتخب الفرنسي لم يبدع من الناحية الهجومية ولم يخلق طريقة لعب مميزة على عكس ما كان متوقع من كوكبة نجوم كبار. لكن الطريقة الدفاعية التي اعتمدها المدرب ديشامب والتي اعتبرها البعض بأنها “باهتة” كانت مفتاح الفوز بالكأس الذهبية. حصن دفاعي قوي ومتين بقيادة فاران وامتيتي واعتماد على المباغتة من الهجمات المرتدة والأكثر من ذلك كان استغلال الكرات الثابتة بطريقة مثالية لتسجيل الأهداف. الفلسفة الكروية للفرنسين ركزت على النتيجة وليس على الاداء، ومن غير المعقول القول بأن منتخب يتوج بكأس العالم دون استحقاق، فلا أحد يصنع المجد والتاريخ ويعانق كأس الذهب دون استحقاق ولا يهم الطريقة بل المهم هو النتيجة. ولا بد على الجميع بأن يعترف بأن ما فعله غريزمان، كانتي، امبابي وبوغبا يستحق التتويج بالذهب.

Anan
عنان عماشة

لقد اثبتت كرة القدم في المونديال الروسي بأن المستديرة مجنونة ولا تخضع لقوانين علمية ثابتة. فالعديد من الفرق أمتعت وأبدعت وقاتلت كما فعلت كرواتيا في النهائي ولكن في أوقات الحسم خانها الحظ. كرة القدم تغيرت كثيرا وأصبحت أكثر صعوبة مع مطلع الألفية الثالثة وبات تسجيل الأهداف في البطولات الكبيرة أمرا معقداً والمنافسة اشتدت بين عديد المنتخبات بسبب تقلص الفروقات في المستوى والنهضة الكروية التي شهدتها العديد من الدول في السنين الماضية. على سبيل المثال، اذا قمنا بمقارنة مونديال انجلترا 1966 بمونديال البرازيل 2014، سنجد تفاوت كبير جداً في عدد التسديدات باتجاه المرمى في المباراة النهائية ، فعدد التسديدات في المباراة النهائية (1966) بين المانيا وانجلترا وصل الى 77 تسديدة، بينما عدد التسديدات في نهائي 2014 بين المانيا والارجنتين وصل الى 20 تسديدة فقط. وهذه الأرقام قد تثبت كيف تغيرت كرة القدم وأصبحت اللعبة أكثر تعقيدا وتعتمد على التحضير والتكتيك العالي أولا وبالأخص مع بعض التغيرات في القوانين التي ادخلها الفيفا مع مرور السنين مثل- القانون الذي سن في عام 1992 والذي بموجبه منع الحارس من التقاط الكرة عندما يتم التمرير اليه من قبل أحد زملائه.

من الناحية التنظيمية تميز المونديال الروسي بالتنظيم المثالي والمتميز على جميع الأصعدة بشهادة من العالم بأسره بأن روسيا نجحت باستضافة مونديال تاريخي بدون أي مشاكل أو أي خلل فني يذكر. ومن الناحية الكروية لم يقدم المونديال الروسي المتعة الكبيرة المنتظرة من عشاق الكرة، فعلى الرغم من تسجيل 169 هدفا في البطولة ومعدل تهديف 2.64 للمباراة الواحدة (تقريبا مثل معدل التهديف في البرازيل 2014) وهو بالمعدل الجيد مقارنة بمونديال 2002 (2.52 هدف للمباراة)، مونديال 2006 (2.3 هدف للمباراة) ومونديال 2010 (2.27 هدف للمباراة). لكن عددا كبيرا جدا من هذه الأهداف سجل من ضربات ثابتة أو من ركلات جزاء وشهدنا أيضا تسجيل ما لا يقل عن 12 هدفا ذاتياً، في حين عدد الأهداف التي سجلت من عمل جماعي مميز أو من مهارات فردية رائعة كان قليل نسبيا. بالاعتماد على هذه المعطيات يمكننا القول بأن عدد الأهداف ارتفع بينما جودة الأهداف انخفضت.

إعلان

كليان امبابي دخل التاريخ من الباب الكبير فأصبح اللاعب الوحيد الذي يسجل في نهائي كأس العالم بعمر تحت 20 عام بعدما فعلها الجوهرة السوداء بيلية في نهائي 1958 (5:2 لليرازيل  على السويد)، فاستحق امبابي الديك الصغير بأن يتوج بجائزة أفضل لاعب واعد في روسيا 2018 بناءاً على ما قدمه في جميع المباريات بداية بمهاراته الرائعة وأهدافه الذكية ونهاية بسرعته الخارقة.

ولا يختلف اثنان على أن القائد الكرواتي لوكا مودريتش استحق بكل جدارة التتويج كأفضل لاعب في المونديال نظرا للدروس التي قدمها لوكا في التمركز الرائع على أرضية الملعب وتنظيمه للعمليات الهجومية من الخلف وانهائها باللمسة ما قبل الأخيرة في الكثير من الأحيان. حتى عندما خسر مودريتش ورفاقه النهائي فهم سيطروا على وسط المديان بشكل كبير وافتكوا العديد من الكرات وفازوا في أغلب الصراعات الثنائية على الكرة، وهنا ظهر التأثير الكبير والمستوى العالي للوكا الكابتن مع وبدون الكرة.

هداف البطولة هاري كين برصيد 6 أهداف قدم مستوى جيداً خصوصا فيما يتعلق بشخصية القائد على أرض الملعب على الرغم من صغر سنه. لكن كين سجل 3 أهداف من علامة الجزاء ولم يتميز المنتخب الأنجليزي بتسجيل أهداف تعتمد على العمل المنسق للمجموعة بل أن فوق ال80% من أهداف انجلترا سجلت من كرات ثابتة. مقارنة بما فعله هدافين سابقين للمونديال فأن كين لم يتألق من الناحية المهارية والفنية كما فعل خاميس رودريغيز في البرازيل 2014 (6أهداف) والظاهرة رونالدو في 2002 (8 أهداف).

ما قدمه تيبو كورتوا الحارس البلجيكي في دور الثمن نهائي أمام البرازيل كان رائعاً، ففي أكثر المباريات أثارة ومتعة في الأدوار الاقصائية قدم كورتوا مباراة خرافية وتصدى للعديد من محاولات منتخب السيلساو الذي خانته الكرة والحظ بالاتفاق مع كورتوا. الحارس الأفضل في المونديال يستحق التربع على عرش الحراسة العالمية فكان حاضرا في اللحظات الحاسمة وداعماً كبيراً لزملائه وهو يقف “خلف” الجميع.

أخيرا وليس أخرا، شهدت روسيا ولادة تقنية الفيديو التي حسمت العديد من اللقطات التي أثارت الشكوك وكانت فعالة وجيدة في أغلب المواقف، بينما أثارت العديد من التساؤلات في احيان اخرى. الحكم الأفضل في المونديال البرازيلي 2014، الأرجنتيني نيستور بيتانا والذي ادار المباراة الافتتاحية والنهائية في روسيا. بيتنا الممثل السابق في الأرجنتين يمتلك شعبية كبيرة وادار المباريات في روسيا بكل حزم وكانت معظم قراراته صائبة. لكن ال-VAR  في المباراة النهائية ساعده باحتساب ركلة جزاء قاسية بعض الشيء على كرواتيا. تقنية الفيديو غيرت الكثير في المونديال الحالي لكنها لم تحول كرة القدم الى علم ثابت وحتى مع وجودها وجدت الأخطاء وتبقت الكلمة الأخيرة للحكم البشري الذي يتوجب عليه تفعيل منطقه الشخصي في الحالات المعقدة.

وتبقى متعة كرة القدم هي الأجمل والأروع، تدخل الفرحة الى قلوب الملايين وتحزن الأخرين. وتظهر الوجه الجميل لحضارات وثقافات شعوب العالم، فاحتفل الفرنسيون وافتخر الكرواتيون واعتز اليابانيون بأخلاقهم وتألق البلجيكيون وتأمل البريطانيون وغيرهم. هي أكثر من مجرد كرة جميلة ومستديرة، هي كرة تحمل في أعماقها مشاعر وأحاسيس عظيمة تعجر الكلمات عن وصفها، فعناق الرئيسة الكرواتية التي ذرفت الدموع للاعبي بلادها يحمل في طياته معاني عظيمة في المشهد الختامي للمونديال الروسي.

تعليقات

  1. لست من متابعي كرة القدم الا في البطولات الدولية ولكن أسجل اعجابي بتلخيصك هذا اخ عنان وباقي مقالاتك. شكرًا على المعلومات التي قدمتها بشكل انيق وشامل. بدون الإكثار من لغة المرادفات والالقاب كما يفعل الآخرون . مثل الديوك والمستديرة الخ والتي يشتهر بها المعلقون العرب
    شكرًا

التعليقات مغلقة.

+ -
.