روسيا: نمو الدخل تجاوز ارتفاع الأسعار

انهمكت أوساط المحللين والخبراء الروس بوضع تقويم يتناول الإنجازات والإخفاقات التي مرت بها روسيا على الصعيدين السياسي والاقتصادي منذ العام 2000 الذي شهد صعود نجم الرئيس فلاديمير بوتين ووصوله إلى سدة الحكم، حتى المرحلة الراهنة.

وقضى بوتين فترتين رئاسيتين متتاليتين حتى عام 2008 قبل ان يتوارى خلف صديقه وحليفه السياسي ديمتري مدفيديف الذي شغل منصب الرئاسة ليتيح المجال لعودة قوية لبوتين إلى الكرملين في 2012، باعتبار أن الدستور الروسي لا يسمح للرئيس بشغل المنصب لأكثر من فترتين متتاليتين.

وثمة ظلم فادح يلحق بمدفيديف في تعليقات المحللين والخبراء وهم يتناولون حالياً عنوان: عشر سنوات لبوتين في الكرملين…الإنجازات والإخفاقات! فهذا العنوان يتجاهل رئاسة مدفيديف نهائياً وكأنها لم تكن، وقد يكون الأمر متعمداً فكثير من السياسات الاقتصادية التي أطلقها مدفيديف تم الانقلاب عليها بسرعة فور عودة بوتين إلى السلطة، وبينها قرارات لمحاربة الفساد وإصلاح الأنظمة المصرفية. ويمكن الانطلاق لتقويم السياسات الاقتصادية للكرملين في عهد بوتين، من ملاحظة جملة ملفات كانت السلطات وضعتها كمهمات اساسية مطلع القرن الجديد.

 

نمو الناتج

في بداية حكمه استفاد بوتين من الانهيار الاقتصادي الكبير بعد أزمة آب (أغسطس) 1998، وهبوط سعر صرف الروبل إلى نحو الثلث. وارتفع النمو مقارنة بمستوى منخفض لحجم الاقتصاد. والمهم أن ارتفاع اسعار المواد المستوردة شجع الإقبال على المنتجات المحلية ما زاد النشاط الصناعي، والنقطة الثانية أن أسعار الأسهم المقومة بأدنى كثيراً من سعرها الحقيقي جعل الاستثمار في البورصات مفيداً وذا جدوى ربحية.

وأسفر ذلك عن تجاوز معدل نمو الاقتصاد الروسي عام 2000 نسبة 10 في المئة، وفي السنوات التالية، تباطأ هذا المؤشر تدريجاً. ومع ذلك، كان النمو الاقتصادي من بين أعلى المعدلات بين الدول النامية. خلال هذه الفترة نما الاقتصاد الروسي، ليس فقط على حساب الزيادة الحادة في الأموال المستلمة من بيع السلع، مثل النفط والغاز، ولكن أيضاً إلى حد كبير بسبب تنفيذ إصلاحات اقتصادية رئيسية في مجالات الضرائب والخدمات المصرفية والعمل والأرض، وبفضل السياسة المالية الصارمة في البنك المركزي الروسي.

يُذكر أن النموذج الاقتصادي الحالي عاد ليستنفد إمكاناته، إذ إن نمو الناتج عام 2013، سجل معدل 1.3 في المئة فقط. ومنذ وصول بوتين إلى السلطة شغل هم الحد من التضخم جزءاً مهماً في سياساته الاقتصادية، ونجح في تقليص تداعياته فعلياً، وعلى رغم حديث الأوساط السياسية عن تقليص مهم من 13 في المئة عام 2000 إلى نحو خمسة في المئة عام 2013 أشار الخبير في شؤون الاقتصاد الروسي، سامر الياس، إلى أن الحكومات المتعاقبة لم تستطع وضع حد للمعدلات المرتفعة على رغم الإجراءات المالية والنقدية.

واضطر المصرف المركزي العام الماضي إلى اختيار هدف ضبط التضخم على حساب تحقيق معدلات نمو. وعلى رغم ذلك لم يستطع ضبط التضخم عند مستويات متدنية، وهذه السنة سترتفع الأسعار كثيراً فوق الهدف المرسوم، والتضخم المرتفع عقبة رئيسة تواجهها روسيا وتتسبب في عدم ضخ استثمارات طويلة الأجل لمشاريع الإنتاج وكذلك التخفيف من أثر زيادة الرواتب ومعاشات التقاعد وعدم انعكاس الزيادات على الدخل الحقيقي.

 

الوضع الديموغرافي

منذ العام 1992 تجاوز معدل الوفيات معدل المواليد في روسيا، ومع ذلك، تمكنت البلاد من عكس هذه المؤشرات السلبية في 2013. ووفقاً لدائرة الإحصاءات الروسية ولد في هذا العام 1.90 مليون شخص وبلغ عدد الوفيات 1.88 مليون. وعلى مدى السنوات الست الماضية سُجلت زيادة ملحوظة في معدلات الولادة، وتحقق هذا التأثير ليس فقط من خلال تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، بل من خلال برامج الحوافز.

إلى ذلك، تسبب تحسن وضع الاقتصاد الروسي وتوسعه السريع في نمو الاستثمارات الأجنبية. وظهرت لدى المستثمرين العالميين رغبة كبيرة في الاستفادة من النمو السريع للاقتصاد الروسي، الذي أصبح قادراً على توليد عائدات كبيرة من خلال سلسلة من الإصلاحات. وعلى رغم بقاء روسيا في مطلع عام 2000 خارج قائمة البلدان العشرة الأولى من حيث جذب الاستثمار، إلا أنها في نهاية عام 2013 احتلت المرتبة الثالثة في هذه القائمة. وبلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة مستوى قياسياً بلغ 94 بليون دولار، وهو معدل أعلى بنسبة 83 في المئة من نظيره في العام 2012. وعلاوة على ذلك، يعتقد الخبراء أن هذا التوجه سيستمر هذه السنة، على خلفية نشاط صندوق الاستثمار المباشر الروسي.

ويؤكد الياس نجاح السياسات الروسية في جذب استثمارات بسبب تغيرات في القوانين والنمو الاقتصادي الروسي، لكنه يرى أن معظم الاستثمارات القصيرة الأجل تأتي من الأموال المضاربة في أسواق المال ما بدا جلياً في تجربة الأزمة الاقتصادية العالمية وكذلك الأزمة الأوكرانية الحالية.منذ العام 2000، سجل احتياط روسيا من الذهب والعملات الأجنبية نمواً مستمراً، انقطع فقط أثناء الأزمة المالية العالمية 2008 -2009، عندما اضطر «بنك روسيا» المركزي لكبح جماح سقوط الروبل، ما سبب انخفاض الاحتياط من 596 بليون دولار في آب 2008، إلى 383 بليوناً في نيسان (أبريل) 2009. وحالياً يبلغ الاحتياط الدولي 493.3 بليون دولار.

ولعل احدى أبرز النقاط الرئيسية لسياسة بوتين الاقتصادية كانت التخلص من الديون، التي بلغت عام 1999 نحو 138 بليون دولار، أو 78 في المئة من الناتج. ووفقاً لوزارة المال، بلغ الدَيْن الحكومي في الأول من نيسان الماضي نحو 54.881 بليون دولار أو 8.4 في المئة من الناتج.

ومنذ مطلع عام 2000، لوحظ نمو سريع لدخل السكان في روسيا، وذلك على حساب التحسن الكبير في الاقتصاد وتدفق الأموال، ومع نهاية الألفية الأولى، بدأت معدلات نمو الدخل تتجاوز معدلات ارتفاع الأسعار، وتجاوز الدخل الحقيقي المتاح للروس دخل مواطني بلدان أوروبا الشرقية. ففي عام 2000، كان متوسط الدخل النقدي للفرد الواحد 2281 روبل فقط (أقل من 100 دولار). وفي كانون الأول (ديسمبر) 2013، ارتفع هذا الرقم ليبلغ 38340 روبل (أكثر من 1200 دولار).

ومع نهاية عام 1999، بلغ عدد السكان تحت خط الفقر حوالى 29.9 في المئة. والحد الأقصى لمستوى الفقر في روسيا، سُجل في العام 1992، وبلغ 33.5 في المئة أي حوالى 49.3 مليون نسمة. ومنذ العام 2000، بدأ هذا المؤشر في الانخفاض، ليصل في العام 2004 إلى 17.6 في المئة (25.2 مليون)، وهذه النسبة بلغت الحد الأدنى الذي تم التوصل إليه في 2012، حين بلغت 10.9 في المئة.

إلى ذلك، ارتفع مؤشر التنمية البشرية من 0.691 عام 2000، إلى 0.788 في 2013، وفي الوقت ذاته، ارتفعت روسيا في التصنيف العالمي من المركز 62 إلى المركز 55. كما انخفض هروب رؤوس الأموال منذ مطلع عام 2000 ليسجل في 2005 نقطة تحول، حيث بلغ للمرة الأولى نقطة التوازن بين رؤوس الأموال المتدفقة إلى البلد والهاربة منها. وفي السنوات الثلاث التالية، بدأ تدفق رؤوس الأموال يتجاوز تلك الهاربة وسجل المستوى الأقصى عام 2007، عندما بلغ صافي التدفقات إلى البلد 81.7 بليون دولار.

ولكن، مع بداية الأزمة المالية العالمية في 2008، عاد الاتجاه السلبي لهروب الأموال. وحتى مع استقرار الاقتصاد العالمي والروسي، فإن هروب رأس المال لم يتوقف. ووفقاً لتوقعات وزير التنمية الاقتصادية اليكسي اوليوكاييف، فإن هروب رؤوس الأموال من روسيا في الربع الأول من هذه السنة قد يصل إلى نحو 60 بليون دولار، وبحلول نهاية السنة قد يبلغ 100 بليون دولار.

+ -
.