سان فرانسيسكو.. البحث عن الذهب

قبل مائة سنة على نكبة فلسطين (أي عام 1948) كانت سان فرانسيسكو مدينة صغيرة على الحدود لا يتجاوز عدد سكانها خمسمائة شخص يبحثون عن الذهب في ولاية كاليفورنيا، وكان الوصول إليها بسفينة عبر البحر أسهل طريقة لنمو عدد سكانها الذي وصل إلى 20 ألفا بعد عام واحد فقط. افتتح فيها فندق «القصر» أكبر وأفخم فندق في العالم آنذاك فيما يسمى «الوادي السعيد» وما زال يحتفظ بأمجاده وعراقته حتى اليوم.

http://www.youtube.com/watch?v=oi2o2r3Sgc0

تعتبر ولاية كاليفورنيا على الساحل الغربي للولايات المتحدة بلدا قائما بذاته يتميز بالطبيعة الخلابة والشمس الساطعة وجمال المحيط الهادي وثقافة السياحة والتنزه واعتلاء الأمواج المتكسرة ويفوق الطريق العام الذي يربط جنوبها بشمالها ألف كيلومتر ويمتد على شاطئ البحر. استفادت سان فرانسيسكو في نموها واتساعها من تدفق أموال مناجم الذهب والفضة في جبال صحراء نيفادا وتعتبر الآن عاصمة الثقافة الراقية في الولاية ومركز شركات التقنية الحديثة رغم أن عدد السكان لا يتجاوز 775 ألفا ففيها رقص الباليه والفرقة السيمفونية الشهيرة ودار الأوبرا المرموقة والمتاحف الفنية المتنوعة خاصة متحف الفن الحديث والمتحف العلمي المعروف باسم «اكسبلوتاريوم» أما عاصمة الثقافة الشعبية والسينما فهي ملك لمدينة لوس أنجليس في الجنوب.

إعلان

تقول الكاتبة والمدافعة عن حق المرأة في الانتخابات اينيس هيز اروين في كتابها الصادر عن كاليفورنيا عام 1921 «بإمكانك العيش في سان فرانسيسكو شهرا كاملا دون أن تبغي أي تسلية أكثر من المشي في شوارعها». وهذا بالضبط ما لمسناه منذ أن وصلنا إلى سان فرانسيسكو في يوم امتاز بالطقس المعتدل البديع رغم موسم الشتاء وشاهدنا روعة ألوان الغروب قرب جسر الباب الذهبي المعروف في الصور، لكن المتعة الكبرى جاءت من الإقامة في وسط المدينة في الفندق التاريخي «القصر» والانطلاق منه سيرا على الأقدام إلى ساحة الاتحاد (يونيون سكوير) جنة التبضع والفنادق، والمدينة الصينية (تشاينا تاون) وسماحها بالمساومة والتدخين وأصوات أبواق السيارات، ومنطقة الميناء ورصيف الصيادين والشاطئ الشمالي ومخابزها الإيطالية التقليدية، وخليج سان فرانسيسكو بمناظره الرائعة بما فيها منظر الصخرة التي بني عليها السجن المشهور «إلكتراز» لحبس كبار المجرمين منذ عام 1933 حتى إغلاقه عام 1963. ومنطقة المارينا الحافلة بالحوانيت ذات الذوق الرفيع والمطاعم ذات المآكل اللذيذة على الطراز الأوروبي والأميركي بآن واحد.

* «إكسبلوراتوريوم» الاستكشاف هو مختبر علمي يصلح للقرن الحادي والعشرين يفتح لك الآفاق لتكتسب بالتعليم أسرار العلوم وكيف تعمل فهو متحف علمي مبتكر لتطوير كيفية التعليم أنشأه عالم الفيزياء فرانك اوبنهايمر عام 1969 وهو شقيق روبرت اوبنهايمر أب القنبلة النووية، وانتقل المتحف إلى مقره الجديد منذ عام واحد على الرصيف رقم 15 في الميناء بعد تحديثه وزاره أكثر من 570 ألف شخص عام 2012. بدأ المتحف بمعروضات وأدوات وبرامج تحث الزائر – وخاصة الأطفال واليافعين – على الفضول وتوخي المعرفة واستكشاف أعماق العلم، وتوسعت تلك المعروضات في المقر الجديد وجربنا فيه الانغماس في الضباب حسب الطريقة الخلاقة للفنانة اليابانية فوجيكو ناكايا فوق الماء على «جسر الضباب». تلمس بنفسك جمال الضباب في سان فرانسيسكو وكأنك في حوار مع الريح، فالفكرة أن خبرتك اليومية مع الطبيعة تعطيك الكثير من الإلهام والأفكار حين تحاورها.

هناك أيضا «قبة اللمس» ابتكرها وبناها اوغست كوبولا والد الممثل نيكولاس كيج وشقيق المخرج السينمائي ذي الأصل الإيطالي فرانسيس فورد كوبولا.. تدخل في قبة مظلمة وتتعرف على غرفها وما فيها باستعمال حاسة اللمس فقط. إذا لم تعجبك تلك التجربة العلمية حاول أن تستعمل في قسم آخر من المتحف استعمال الضوء والصوت وتتلاعب بهما لتكتشف كيف يعملان أو كيف تصنع محركا بسيطا يبين لك علاقة الكهرباء والقوة المغناطيسية معا أو كيف تبدو تحت المجهر الخلايا الجذعية وذبابة الفواكه وسمك الزرد المخطط مثل الحمار الوحشي.

* الفن أهم عروض الشهر الأول من سنة 2014 نراها في باليه «جيزيل» للموسيقار الفرنسي آدم وهي من أشهر القطع العاطفية تروي قصة حزينة لفتاة قروية واحتفالات في الغابة ورقص العذارى من الليل حتى الفجر في إنتاج رائع لهيلغي توماسون المدير الفني لباليه سان فرانسيسكو القادم من آيسلندا ذي الخبرة الطويلة في الدانمرك وباليه نيويورك. الموسيقى العذبة والبراعة في الأسلوب الكلاسيكي لرقص الباليه الذي يتميز فيه توماسون جعل العرض من أجمل عروض الرقص على الإطلاق.

أوركسترا سان فرانسيسكو السيمفونية التي يرأسها مايكل تيلسون توماس قدمت حفلا موسيقيا جميلا لموتسارت ومندلسون برز فيه عازف الكمان الروسي الكسندر بارانتشيك وتبعه حفل آخر لموسيقى رخمانينوف النابعة من القلب والسيمفونية السادسة لسيبيليوس بقيادة المايسترو الفنلندي اوسمو فانسكا كدليل إضافي على عالمية المدينة واحتضانها لكبار الفنانين من كافة الدول.

* سوساليتو قرية صغيرة ساحرة ميسورة قرب المدينة والجزء الشمالي لجسر الباب الذهبي وفيها منطقة للتنزه بعد أن كانت محطة للقطارات قبل الحرب العالمية الثانية إنما أصبحت محطة للأغنياء والفنانين وبعض منازلها عبارة عن قوارب في البحر مرتبطة بالشاطئ. تاريخيا كانت تسكنها عشيرة من الهنود الحمر المسالمين تتعاطى صيد السمك، أما الآن فأقرب وسيلة للوصول إليها تتم عبر رحلات سياحية منظمة بالسفن الصغيرة. عندما تصل إلى سوساليتو ستدهشك الدكاكين الصغيرة الأنيقة (بوتيك على الطريقة الأوروبية) وصالات عرض اللوحات ومركز الأحياء المائية والمقاهي المستلقية عل الشاطئ في الهواء الطلق وبالتأكيد المنظر المذهل الساحر لخليج سان فرانسيسكو وجسر الباب الذهبي، وستشعر بالرغبة في البقاء فيها طويلا أو ربما الانتقال للسكن على الدوام.

غدت سان فرانسيسكو هذه الأيام مقصدا للسياحة والثقافة وأطايب الأطعمة وتغذي تطورها أموال الشركات الكبرى في سيليكون فالي مثل فيسبوك في بالو التو القريبة وتلهب أسعار عقاراتها التي أصبحت تنافس نيويورك بارتفاعها المتواصل. المهم أنك لن تنسى رحلتك إليها طوال العمر. مئات المغنين مجدوا جمال المدينة لكن الأغنية الشهيرة منذ الستينات كانت «تركت قلبي في سان فرانسيسكو» لطوني بينيت (ولد في نيويورك من أصل إيطالي عام 1926 باسم انتوني بينيديتو) وتبعه في تسجيلها بعد نجاحها الفائق فرانك سيناترا وبيري كومو وبيغي لي ودوك الينغتون وأندي ويليامز وأخيرا المغنية الإيطالية الكبيرة مينا قبل ربع قرن من اليوم، وما زالت الأغنية بمثابة توقيع طوني بينيت في كل مناسبة.

* The Palace (ذا بالاس)

* فندق من نوع بالغ الفخامة بني عام 1875 على الطراز الأوروبي حين كان أسلوب العمارة السائد يتبع طراز أبنية الملكة فيكتوريا في إنجلترا علما بأن كاليفورنيا كانت منعزلة عن الولايات الأخرى وتتبع في القرن الثامن عشر الإمبراطورية الإسبانية ثم ورثتها المكسيك، وقبيل إعلان استقلال الولايات المتحدة بستة أيام حل فيها المستعمرون الإسبان عام 1776 لكن مشاكل وحروب إسبانيا في أوروبا وثورات دول أميركا اللاتينية عليها أجبرتها على إهمال التوسع في كاليفورنيا، وانسحبت المكسيك من كاليفورنيا عام 1848 إثر هزيمتها أمام القوات الأميركية التي ضمت الولاية إلى بقية أجزاء الاتحاد. يروي هذا الفندق الغني تاريخ الولايات المتحدة وأعيد بناؤه ثلاث مرات في نفس الموقع، وقد صمم البناء الأول المؤلف من سبعة طوابق ويتسع لـ1200 شخص المهندس المعماري جون غينور بعد دراسة لأساليب البناء المتطورة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة وأوروبا. يذكر ريتشارد هارنيد المهتم بتاريخ سان فرانسيسكو أن الزبائن كانوا يدخلون إلى الفندق بخيولهم ويربطونها في الطابق الأول مثلما نرى في أفلام رعاة البقر لكن رائحة الخيول وضجيجها أزعجا الزبائن وتفاقمت المشكلة بعد اختراع السيارات التي لم تتمكن من الانعطاف والخروج من بهو الفندق. تم تعديل البناء وتحول المدخل إلى بهو متسع وفي وسطه شجرة نخيل، واستخدمت مساحة واسعة لثلاث غرف للطعام يعمل فيها 150 من الندل والخدم ومساحة أوسع للتبضع والشراء بحيث لا يضطر الزائر للخروج كي يحصل على مقتنياته كما أضيفت المصاعد العاملة بقوة ضخ الماء مثل النواعير. أعيد بناء الفندق بعد الزلزال الكبير الذي ضرب المدينة عام 1906 كما بني جسر يصله بالفندق المجاور «غراند اوتيل» سمي «جسر التنهدات» لأن الرجال كانوا يقيمون في بالاس اوتيل بينما تقيم السيدات المرافقات لهم في غراند اوتيل.

أقام الرئيس ويدرو ويلسون عقب الحرب العالمية الأولى حفل عشاء ضخما عام 1919 لإقناع الحضور والبلاد بالانضمام إلى عصبة الأمم التي سبقت الأمم المتحدة والتي أنشئت في سان فرانسيسكو مصرا على أنها أفضل أمل للسلام في العالم، وحين ذكر كلمة السلام أطلقت حاشيته عشرات الحمائم من أقفاصها ثم عادت الأغلبية إلى الأقفاص عدا البعض وعندما حاولوا القبض عليها فشلوا مرارا وتوقف الاحتفال فاضطرت إدارة الفندق للاستعانة بالصيادين الذين أطلقوا النار وتسببوا في تكسير الزجاج الملون في السقف.

حكايات كثيرة وذكريات حافلة مرت على هذا الفندق ومن أشهر زبائنه المعروفين عبر التاريخ: من الساسة الرؤساء الأميركيون أوليسس غرانت وويليام تافت ووارين هاردينغ الذي توفي في الفندق إثر نوبة قلبية عام 1923 وجورج بوش الأب وملك بلجيكا ألبرت وملك البرازيل دون بدرو وملكة هولندا جوليانا ومارشالات فرنسا فوش وجوفر ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل والرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف والمستشار الألماني كونراد أديناور وهيلاري كلينتون، ومن الفنانين: الممثلة سارة برنارد ومغني الأوبرا انريكو كاروزو والمغني بينغ كروسبي والراقصة جنجر روجرز والمخترع توماس أديسون والكاتب دي ايتش لورنس والممثلة صوفيا لورين والمخرج السينمائي ريدلي سكوت والكاتب الساخر مارك توين الذي وصف سان فرانسيسكو بقوله: إنه تمتع بأبرد طقس شتوي خلال زيارته لها في الصيف.

+ -
.