من بين أفضل المدن التي يمكن أن تزورها في أوروبا خلال الخريف الحالي هي العاصمة الإيطالية روما، المبنية على سبعة تلال، فالجو فيها معتدل والنشاط على قدم وساق بعد إجازات الصيف والمظاهرات والاحتجاجات الموسمية، لكن خفة ظل أهلها تنسيك ازدحام وفوضى السير وساعات افتتاح وإغلاق المحلات والمطاعم المتناقضة.
لا بد من زيارة عدة أماكن معروفة واكتشاف زواياها الخفية وإدراك الشفرة السرية لسكانها المحليين للاستمتاع بوقتك ومشاهداتك، وإلا فإن الزيارة لروما لن تكون كاملة وعليك العودة إليها مجددا لاستكمال ما فاتك من معالمها ومباهجها. لا تنس أن كلمة روما قبل ألفي سنة كانت تعني الحضارة أيام عز الإمبراطورية الرومانية
* نافورة الأحلام حلم كل سائح في العالم أن يزور روما مرة في حياته وأن يرى هذه التحفة الفنية في وسط المدينة ويلقي فيها بقطعة من النقود وهو مغمض العينيين، راجيا تحقيق أمانيه.. جدار كبير مزخرف بالمنحوتات والتماثيل وأمامه بركة صغيرة ووراء الجدار لن تجد قصرا منيفا من أيام النهضة الأوروبية، بل لن تجد شيئا سوى البناية المجاورة التي يستند عليها الحائط. بنى نيقولا سالفي هذا الأثر الجميل وفيه الماء الغزير المتدفق عام 1762 بالأسلوب الباروكي السائد آنذاك لفنون النحت والرسم والموسيقى وتجلى في أروع صوره كما نرى عند اندماج فنون العمارة والنحت والتصوير، وستلاحظ تمثال إله الماء نبتون وعربته تغطيها مياه النافورة. في الستينات خلعت الممثلة السويدية الحسناء أنيتا أكبرغ ملابسها في الليل واستحمت في البركة أمام الممثل الإيطالي مارتشيللو ماستروياني في فيلم «الحياة الحلوة» المشهور في هذا الموقع. تجد هناك مئات السائحين ولكن احذر النشالين، وقد تفكر بالتقاط صورة تذكارية مع من يلبسون لباس الجيش الروماني أيام يوليوس قيصر لقاء مبلغ من المال وتراهم أحيانا يدخنون السجائر أو يتناولون المرطبات أثناء فترة الراحة، ثم يضعون خوذتهم العسكرية الرومانية في كيس من البلاستيك الذي لم يكن معروفا بالطبع أيام الرومان. يمكنك المشي لبضعة دقائق لتجد نفسك أمام القصر الجمهوري والمتحف المجاور له في إسطبل القصر سابقا، والعرض الحالي منذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) وحتى أوائل فبراير (شباط) من العام المقبل حول أغسطس (آب) الذي خلف يوليوس قيصر بمناسبة ذكرى 2000 عام على وفاته بعد أن ضرب الرقم القياسي في حكم الإمبراطورية الرومانية لمدة 40 سنة. بالقرب من النافورة تجد متحف المعجنات (الباستا) في قصر إسكندر بيك البطل الألباني الذي قاوم العثمانيين في القرن الخامس عشر فاعتقله السلطان مراد فصار يحارب معه، لكنه انقلب عليه فيما بعد، لكن القصر مغلق حاليا للترميم والإصلاح.
* «الكولوسيوم» مدرج روما القديمة هو شعار روما وأهم أثر تاريخي فيها وقد بني في أوج الإمبراطورية الرومانية عام 80 بعد الميلاد شاهدا على الفن المعماري المتقدم آنذاك، وفيه المسرح الشهير، حيث كان سكان روما يشاهدون صراع العبيد الأسرى مع الأسود حتى الموت لإمتاع الناس في روما القديمة. تجد بالقرب من المدرج أهم الآثار التاريخية في روما، حيث كان مركز المدينة القديمة ومجلس شيوخها وسجنها العتيق على شكل صهريج مدور اعتقل فيه دعاة المسيحية الأوائل القديسين بولص وبطرس وكل شيء مهم جرى في تاريخها العريق. لا يشير اسمه إلى ضخامة البناء بل إلى تمثال ضخم من البرونز للإمبراطور نيرون بعلو ثلاثين مترا، لكن خليفته محا صورة وجهه من التمثال وحولها إلى رمز إله الشمس وبعدها نقله الإمبراطور هارديان خارج المنطقة بمساعدة 24 فيلا لكثافة ثقله. يذكر كاتب إنجليزي زار روما في القرن السابع الميلادي مدرجها القديم قائلا: «إذا انهار الكولوسيوم ستنهار روما وبعدها العالم». تجد حاليا بالقرب من هذا المدرج الدائري أكبر ساحة في روما الحديثة وهي ساحة فينيسيا، وفيها صرح الوحدة الإيطالية قبل 153 عاما والشرفة التي استعملها موسوليني لإلقاء خطاباته النارية خلال العهد الفاشي. ويقام في نفس القصر معرض فني تاريخي حول الصين العتيقة قبل 5500 سنة ويستمر حتى الشهر الثالث من عام 2014. أما إذا رغبت في الذهاب إلى متحف بلدية روما الذي يبعد بضعة دقائق عن المدرج، فستجد عرضا فريدا عن العالم الإغريقي أرشميدس أحد أعظم العلماء وخصوصا الفيزياء على مر العصور وجمعه بين الفن والعلم لابتكار النظريات، وسيستمر هذا العرض بعد آخر العام الحالي بقليل. أما إن كنت تفضل فن الرسم والتصوير، فهناك معرض للفنان الفرنسي الكبير سيزان والفنانين الإيطاليين في القرن العشرين سيستمر في متحف فيتوريانو قرب صرح الوحدة الإيطالية حتى آخر الشهر الأول من العام القادم.
* ساحة إسبانيا نقطة التجمع في وسط العاصمة للتمشي والتنزه على الطريقة الإيطالية الأنيقة ورؤية الفاتنات بأبهى الأزياء في الساحة والشوارع المتفرعة عنها، وفي شارع فينيتو وساحة الشعب القريبين والتبضع في الوسط التجاري من أشهر محلات الأزياء النسائية والرجالية والأحذية الجلدية الفاخرة بأسعار مرتفعة لا يقوى على تحملها هذه الأيام أبناء البلد، بل الأثرياء الجدد من روسيا والصين. يعود اسم الساحة لوجود السفارة الإسبانية لدى دولة الفاتيكان في وسطها بينما بنى الفرنسيون عام 1725 الدرج الذي يصلها إلى كنيسة ترينيتا دي مونتي وبجوارها الفندق الفخم المعروف هاسلر المطل على الساحة وستكتشف وراءه الحديقة المركزية الكبيرة فيلا بورغيزي. تجد بجوارها أيضا مقهى ديل غريكو المعروف لدى الفنانين والأدباء أمثال غوته وستندال، وليست منذ القرن التاسع عشر ومتحف الكتاب الإنجليز شيللي وبايرون. ستلفت انتباهك في شارع كوندوتي (أي شارع القنوات من أيام القائد العسكري الروماني أغريبا الذي تغلب على قوات أنطونيو وكليوباترا في مصر) أن أكبر مجموعة من أرقى المحلات تتركز فيه مثل «فيراغامو» و«فندي» و«تستوني» و«كارتييه» و«هرمز» و«بالي» و«برادا» و«بوربري» و«بولغاري» و«كوتشي» و«أرماني»، وفي شارع بورغونيونا الموازي، له سترى محلات «زينيا» و«روزاتي» و«بالانسيغا» و«إميليو بوتشي» و«موسكينو» و«أيدي مونيتي» وكذلك أحد الفنادق الممتازة المريحة وهو «أوتيل إنجلترا» وينافسه بشكل أكثر ضخامة وفخامة «أوتيل روسيا» في شارع بابوينو المليء بالمحلات التجارية الجميلة الراقية مثل «إيترو» و«شانيل» و«تيفيني» رغم أن اسم الشارع يعني القرد نسبة إلى تمثال قبيح من القرن السادس عشر يصور إنسانا في نصفه الأول وتيسا في نصفه الثاني.
* دار الأوبرا عادت دار الأوبرا بروما إلى عهودها المجيدة، منذ أن انتقل إليها قبل ثلاث سنوات المايسترو الإيطالي ريكاردو موتي أحد كبار قادة الأوركسترا في العالم. وسيبدأ الموسم الجديد في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي بأوبرا «أرناني» للموسيقار الكبير فيردي بمناسبة الذكرى 200 لولادته. ويعتبر موتي من أبرع الفنانين في قيادة موسيقى فيردي، فهو يحافظ على طريقة سلفه المايسترو الراحل المعروف أرتورو توسكانيني من حيث الدقة والموضوعية والحيوية، وسيتألق في الإخراج وتصميم الملابس والمناظر أوغو دي آنا، الشهير في الأرجنتين والعالم بذوقه الرفيع وروحه المبتكرة. وتدور أحداث الأوبرا في إسبانيا خلال القرن السادس عشر في لحظة تاريخية حين تقوم الثورة بقيادة دون جوان ضد الملك دون كارلو. وسيتبع العرض في أواخر الشهر التالي باليه «بحيرة البجع» لتشايكوفسكي.
شهد مسرح دار الأوبرا عدة حوادث بارزة منذ إنشائه عام 1880. عرضت فيه لأول مرة أوبرا «توسكا» لبوتشيني التي تدور أحداثها في روما أثناء الاحتلال الفرنسي أيام نابليون بمناسبة بدء القرن العشرين عام 1900، كما شهد المسرح فضيحة انسحاب مغنية الأوبرا المرموقة ماريا كالاس عام 1958 قبل بدء عرض أوبرا «نورما» لبيليني، رغم حضور رئيس الجمهورية الإيطالية شخصيا لرؤيتها.
* ساحة نافونا الساحة المستطيلة ذائعة الصيت، لوجود نافورة الأنهر الأربعة في وسطها، أنجزها النحات اللامع برنيني عام 1651 وتمثل نهر النيل في أفريقيا والغانج في الهند والدانوب في أوروبا وريو دي لا بلاتا، الذي يفصل بين الأرجنتين وأوروغواي، وقد بنيت الساحة فوق ملعب دوميتزيانو في القرن الأول الميلادي، ثم تحولت في القرن الخامس عشر إلى ساحة السوق المركزية للمدينة خلال 300 سنة، وتحفل الآن بالمقاهي والمطاعم وفيها مقر السفارة البرازيلية لدى إيطاليا وكنيسة سان إنييزي، التي بنيت على أنقاض بيت للدعارة أيام الرومان تم تدميره بواسطة المسيحيين الأوائل، وقد أكمل بناءها وزخرفتها النحات العبقري باروميني منافس برنيني، بحيث تطل على نافورة الأنهر الأربعة ويشاع أنه أضاف مسلة فرعونية في وسط النافورة لكن أنصار برنيني يزعمون أن المثال برنيني هو الذي وضعها.
يقيم المتحف القريب من الساحة واسمه «برامانته» في شارع السلام (فيا ديلا باتشيه) من الآن وحتى منتصف فبراير من العام القادم عرضا بعنوان «كليوباترا وروما وسحر مصر». أما مذبح السلام (آرا باتشيس) القريب من الساحة والمطل على نهر التيبر فيعرض داخل الهيكل الذي بناه الإمبراطور أغسطس لوحات أصلية ثمينة للرسامين الانطباعيين أمثال مانيه ومونيه ورينوار وتولوز – لوتريك وغوغان وفان غوخ استعارها من مجموعة فنية نادرة في واشنطن.
* مطعم الست اليونورا لا تكتمل الزيارة السياحية إلى العاصمة الإيطالية دون تناول الملذات في فن حسن الأكل. هناك آلاف المطاعم في روما لكنها منذ أن تقلدت لواء الأكل البحري اكتشف الذواقة من أهلها مطعما راقيا في شارع تيريستا غير المعروف لدى السائحين والزوار المستعجلين وإن لم يكن بعيدا عن وزارة الاقتصاد والسفارة البريطانية وشارع نومنتانا. تكتشف في مطعم اليونورا أصول الطهي الشهي للأسماك وفواكه البحر وأصدافه وأنواع المحار المختلفة. افتتح عام 1997 ويأخذ الشيف إلهامه من الأطباق المعروفة في جزيرة سردينيا ويمتاز بالخدمة الجيدة والديكور الأنيق المريح، والمقبلات البحرية النيئة والمطبوخة مثل القريدس (الجمبري أو الربيان) الطازج المنقوع بالحمض والزيت والأعشاب، أما المعجنات فتشتهر بنوع الفتوتشيني مع الحبار (كالاماري) وزهر القرع (أو الكوسا) والزعفران والصحن الرئيسي فيه سمك اللقز بالفرن، وفوقه طبقة من ملح البحر الخشن، أما حلويات سردينيا فهي مألوفة لمحبي السفر إلى تلك الجزيرة الخلابة وخصوصا الرقائق المحشوة بجبن الغنم من الجزيرة ومغمسة بالعسل بنكهة زهر البرتقال. الأسعار معقولة نسبيا وتتراوح بين 50 إلى 90 يورو للشخص الواحد (أي 68 – 121 دولار).
* متحف الفاتيكان عبارة عن مجموعة متاحف أهمها في كنيسة سيستينا الصغيرة وتحوي كنوز الفن ونفائس الإبداع عبر القرون وتحتاج لزيارتها السريعة بضعة ساعات على الأقل وحجز تذكرة الدخول مسبقا وإلا فإن ساعات الانتظار في صف طويل قد تثنيك عن الدخول مكتفيا برؤية تمثال «العذراء الأسيانة» لمايكل أنجلو في مدخل كنيسة القديس بطرس. لكن أعمال وتصاوير هذا الفنان الرائع (1475 – 1564) في مصلى سيستينا يستحق ساعات الانتظار، فهو من أعظم الأساتذة العالميين وإنجازاته الفنية فلسفية كما هي جمالية وثنية كما هي متدينة وأفلاطونية كما هي مسيحية. صوره في سقف المصلى تعتبر أرفع منجزاته التصويرية قربا من الكمال. تجد في روما 57 متحفا لكن متحف الفاتيكان يصنف في مقدمتها دون منازع.
عاشت روما ألف سنة نصفها قبل الميلاد ونصفها بعد الميلاد منها 500 من النمو والتوسع و200 سنة من العز و300 سنة من الاضمحلال التدريجي. إذا زرتها اليوم سترى شريط التاريخ يمر أمامك ومنجزات عصر النهضة الأوروبية والأزمنة الحديثة وسيبهجك مرح أهلها وحيويتهم رغم مشكلاتهم الاقتصادية، ولن تندم على زيارتها أبدا.