سيأتي ميتٌ بَعدي – نزيه بريك – الجولان المُحتل

لا مفرٌّ، لا مفرٌّ

سأحصل على حقي بالموت بموجب قانون البيولوجيا وبند المساواة…

ربما أنا الآن، بفعلِ الكيمياء الحيوية، ميتٌ

ربما يأتيك الموتُ عارياً، بدون خطاب سئِم المرآة وفقد احداثياته.

وربما يظهرُ عليكَ متخفياً بزبدِ الحياة، أو متنكراً في ضباب ذاتِهِ.

ربما يأتي على فرسٍ بيضاءٍ، كفارس أحلام فتاة ضاق بها الانتظار، وحطَّت

على كفِّ قارئة الفنجان.

وربما يأتيكَ على جناحِ حبٍ حلَّقَ من النظرة الأولى، يفوحُ منه مذاقُ الصُدفةِ المُفتعلة.

ربما يأتيكَ على ظهر “كرنفال” في هيئة أغنيةٍ شعبيةٍ، تفتح لك باب الرقص، لتنسى

أنكَ على قيدِ الموتِ الطويل.

وقد يأتيكَ في هيئةِ صندوقِ الاقتراعِ السحري، مُزوداً بفمٍ صغير وفتحةٍ شرجيةٍ…،

فتُدلي بصوتكَ الحُرّ الأخير، وتقول لا، لتتخلص من النفايات، فتخرجُ لك نعم من تحت الركام

وشفتاها ملطختان بدمك المعروض للبيع.

قد يأتيكَ الموتُ كتاجرِ جُملة، يُفاوضكَ على السعر، منتهزاً

انهيار بورصة الحياة ومزاج “الكورونا” المُنفتح على الطوائف.

قد يأتيك كصفير قطار يطرد من حقائبك مَلَل الانتظار ومستوطنات الزفير، ليزرع

في وجهك بسمة السفر في اتجاه واحدٍ.

وقد يأتيك على ظهر عربة ياء النداء وهي ماضية بسرعة الصوت على دولابين

إلى مقَرِّ الله.

أو يأتيك مثل زهرة على ظهر شوكة تدور في قبضة الصحراء، تنظر من شرفتها

إلى مضارب السراب وتنتظر ريحاً تشُقُّ لها طريق الآخرة.

وربما يأتيك على هيئة خطوات ملتزمة بقوانين الإيقاع، وتفتح لك الباب

على النعاس الفِضّي.

ربما يأتيك مختبئاً تحت جناح حشرة تدخل من نافذة ما زالت

تتجادل مع الريح منذ قوَّسَ الرحيل باكراً وحمل الضباب عصاة السفر.

وربما يأتيكَ على هيئةِ حكواتي، يعتمر قبعة، غارساً لسانَهُ في الفراغ الأبدي، لتسترخي

كضوء شمعة تلفظ أنفاسها المرهقة من نكران الجميل، وتستسلم

لنبراتِ صوته المسلحة بالدراما التصاعدية، فلا تشعُر

ببداية النهاية.

ربما يأتيك كلوح زجاج صافي الوجه، فلا تأخذه على محمل الوجود، إلا بعد أن تحاول العبور ويطرق رأسك، فتستدير قليلا كأنه جاءك من الخلف.

ربما يأتيك كنهرٍ فَقدَ صوته تحت عناد الجليد القُطبي، بعدما أدارت الشمس ظهرها له.

وقد يأتيك كصخرة تربخ فوق ماء النهر، فيستدرج الفضولُ حاسَّة غريزتك بلَمسِ

رُكبتيّها المشتعلة بالنار

ربما يأتيك كشجرة نخيل وحيدة، ترفع راسها فوق الكثبان، تبحث بحرقة في كل الجهات عن عائلتها، رغم الريح التي بعثرت ذاكرتها وسلبت معالم المكان، فتتمسك بها كقشة في الماء، وتتمسكُ هي بحبال صوتك

ربما يأتيك كخلية نحل تستوطن رأسك، وتجمع حولك كل أنين العالم، حتى تكاد تفقد خيوط وعيَّكَ.

ربما يأتيك كصديقتي المجنونة، التي ترفض ربط شعرها الطويل، لكي تستدرج

الريح للعب معها، لأنها كما قالت، تستمتع كثيراً بتهمة الحرية.

ربما يأتيك في هيئة صَدَفَةٍ ألقى بها الموج على شاطئ، وفازت بلقب لاجئ من مجلس الأمن لحماية القوة الفائضة، وخيمة موشومة بـ “لوغو” اليونيسكو.

ربما يأتيك على كتف التأمل خارج حدود النَّص، ويأتي الجواب على جناح نحلة

تتبادل مع وردة قبلات موسم الهجرة إلى الشمال.

ربما يأتيك كنملة تواجدت صدفة في مجال الصوت وانفجرت ضحكاً من فيلٍ رافعا سبابته يخاطب

عصفورا، متباهياً أنه يملك أكبر قفص في حديقة الحيوانات.

ربما يأتيك راقصا كورقة شجرة تحررت من قبضة الجلوس في الأماكن العالية واختارت

الحركة والرقص مع الجاذبية، كي تلامس أقدام الله.

ربما يأتيك شاكراً مُخفياً ابتسامته، كامرأة شعرت لأول مرة بوجودها بعدما انتقل زوجها

للسكن في شقة الموت الفاخرة.

ربما يأتيك كغيمة أسرفت في الشرود، فتراخت أعصابها وأجهضت من انتفاخ اليأس في رحمها.

ربما يأتيك على هيئة وردة ابتلعتها العتمة، فخسرت لسانها وفقدتْ هيبتها أمام الشوكِ، فاستحالت

لقمة سائغة في فمِّ الفراغ.

ربما يأتيك بثياب المدرسة حاملاً حقيبته المُكبلة بالصمت المُعتق. لتشرب نخب العودة إلى التراب.

وقد يأتيك متخفيا بثوب الصدى، لتبحث في ذاكرتكِ عن صاحبته الممنوعة من الصرف.

ربما يأتيك على شكل وسادة مَسحَتْ ذاكرة دموعها، لتستدرجك إلى فندق النوم الجماعي.

ربما يأتيك في هيئة كلمة باردة، لم تحظى يوما برعشة الجماع، ففقدت رئتها وحاسة الشَمّ.

ربما يأتيك في هيئة إبريق في يد امرأة تسقي ورود الحديقة في الشتاء، بعدما فقدت

الإحساس بالفصول لأسباب وطنية.

ربما يأتيك على شكل منظر طبيعي، تلتقط معه صورة “سيلفي”، وتُعلِّقٌها

على جبين صفحتك لتحصد آلاف “اللايكات” المُقوِّية للوجود الافتراضي والمضادة للصدأ.

ربما يأتيكَ على شكلِ ريحٍ تَعِبتْ من أملِ تحريك الجبال، فارتضت بمداعبة البحيرة المُغلقة.

وقد يأتيك في هيئة عود ثقاب فضَّ بكارة العتمة، فتركض نحوه

كطفل رأى أمهُ وارتمى فوق دموعه بحضن الفرحة.

ربما يأتيك كغريب أضاع الطريق، فتحلف بالطلاق ولا تسمح له اكمال طريقه قبل أن يأكل ويشرب تحت سماء خيمتك.

ربما يأتيك في قطعة خبز لا تحب المكياج وترفض المشاركة في مسابقات ملكات الجمال، كي لا

تَسُدَّ الطريق على الأمعاء الخاوية.

ربما يأتيك في وقت الفراغ المُعقم، فتقفز مبتسماً إلى الساحة الخارجية لاستقباله، وتصرخ

 “خذوا طريق”، كي لا يكتشف أنك وحدك،

بدون صوت وظلٍّ.

وقد يأتيكَ في هيئةِ زوبعةِ ضحكٍ، تبتلعُكَ كدوامةِ ماءٍ مُصابةٌ بالدورانِ الصوفي.

ربما يأتيك ككلبٍ جائعِ يهزّ بذيله فرحاً لرؤية سراب الأنس، فتُلقي عليه التحية العسكرية وعَطفكَ،

وترمي بجسدكِ له.

ربما يأتيك كقطة شاردة تبحث عن حضنٍ دافئ يُفقِدُها ذاكرتها المُلوثة بالتاريخ.

وربما يأتيكَ كقطعةِ حلوى تأخرتْ عليها فرحة الأطفال بمرسوم رئاسي.

وقد يأتيكَ منفوخا كرجل شرقي يُفَتّلُ شاربه، ويحُكُّ خِصّيَتَيه بحَصانة ذهبية، بعد أن أنقذ

شرف العائلة بمرسوم قَبَلي.

وربما يأتيكَ الموت

مرتدياً ثيابَ حكيمٍ، في يدهِ مسبحةً قابلةً للتأويل

وفي فمهِ حكمةَ:

الموتُ هو اللاشيئ، مثل كل شيء هنا

أعرفُ أني سأحصلُ على حقي بالموتِ، لكن ليس هذا

محطَّ قلقي المُخضرم، إنما

ماذا سيكون مصير ذاكرتي!؟

أأضعُها في صندوقِ العرسِ المنسِيُّ، وأغلقُ عليها البابَ لتختنق غرقاً في دموعها!؟

أم أحرِقُها على طريقةِ الهندوس، وألقي برمادها

في النهر الفاصل بين نهد الجولان ونهد فلسطين، ليخرج الماء عن صمته!؟

هل أضعها تحت الشمس، حتى يتخثر الضوء في عينيها وتنسى صورة وجهي، كما لو كنتُ

ريحا مرّت من هنا بمحض فوضى في حواس المَجرّات السماوية؟

أم أُخلِّلها

وأحفظها في مرطبناتٍ زجاجيةٍ مُحكَمةَ الإغلاق، وأعلنها منطقة عسكرية؟

أم أكتفِ

بأخذِ عَيّناتٍ من سيرتها الذاتية ليوم الحساب،

أو عيِّناتٍ

من حيواناتها المنوية، لأستَنسِخُها فيما لو خطفتها رصاصة الانقراض؟

هل أصنعُ منها كرةَ قماش، ليلعب بها الأطفال كلما ضاقت روحهم

بزنازين الجغرافيا والتاريخ،

أم أوزعها على أصدقائي الموتى، لكن ماذا لو

 نَبشَ حماةَ ديار الموتِ القبورَ ثانية!؟

ماذا لو رَفعَها الاحتلالُ بجرافة، ووضعها في مقبرة رقمية، رافضا

أن يمنحها مساحة بطول جثتي؟

مساحة من فلسطين المسروقة، أو من الجولان المضمومة -في صدري- لقائمة الجريمة المُنظمة.

هل أشتري لها قطعة أرض بور مُعقمة من وباء الاحتلال، وأقرأُ

وصيتها للريح والمطر، أَم

أقدِمُها سماداً عضوياً للأرض المُصادرة، كي لا يتلاعبوا بجيناتها، فتنسى شجرةَ عائلتها؟

هل أضعها في حديقة عامة ليمر بها الموتى منتحلين خطوات العشاق، لكن ماذا لو

تبادلوا القبلات علناَ وخدشوا شرف الورود بشهقة ثملة؟

هل أطلي بها أجساد الفقراء البرونزية، لتحميهم من لدغة الجوع، لكن ماذا لو

لعق المطر أجسادهم وسرق ملحها، ليرشو به البحر كي يأويه؟

هل أُمددها على سطح البيت بين قمح المونة لتستريح، لكن ماذا لو

شنَّت عليها أسراب الدوري هجمات مزوّدة بصواريخ الجوع، أو قصفتها طائرات تكره

 الذاكرة المُقاوِمة للتطبيع…؟

هل أخلي سبيلها لتذهب مع الريح وتعود مع العاصفة المؤجلة بسبب الاحتباس الحراري؟

هل أضع على فمها كمامة بيضاء نزولاً عند جائحة الفاشية وقانون القومية الآري، لكن

ماذا لو سمعوا صراخها واتهموها

بإيواء الصدى ولَمَّ الشمل من قطارات الشتات؟

هل أغيّرُ اسمها الثلاثي وأقصُّ شعرها الأسود الطويل، وأضافرها

المَطليَّة بالمواعيد،

أم أُغَطّيها بشرشفٍ يمتص عرقَ الوقتِ، حتى قيام الفجر

المُنتَظَر!؟

هل أدَعها تمشي مع النهر، لتدخل على ظهر غيمة وتعود

بالسقوط الحر،

ضاحكة

كالمطر!؟

أيها الموت!

المتعجرف،

فارداً ريشك كطاووس ضاجع للتو أنثاه

أيها اللاشيئ!

كل أوراقك محروقة بالعدم

وإني في الانتظار، أقف

كإشارة الضوء الخضراء فوق رصيفك الطويل،

وفي يدي مصباح من الطين

قد حان الوقت لأُلقي عني

هذا الجسد،

وأدقُّ المسمارَ

في تابوتِ الفراغِ

لستُ أنا أول

الميّتين،

ولستُ آخر المذبوحين

بسيفِ الانتماء للصوت…

سيأتي ميتٌ بَعدي، حاملاً

في كفّهِ

ذاكرةً خضراء،

ونهراً

يمتص دم الجليد

+ -
.