شتوتغارت… تغفو على حكايات الملوك والعظماء وتصحو على عالم الإنجازات والابتكارات!

By Julian Herzog (website) (Own work) [GFDL (http://www.gnu.org/copyleft/fdl.html) or CC BY 3.0 (http://creativecommons.org/licenses/by/3.0)], via Wikimedia Commons
By Julian Herzog (website) (Own work) [GFDL (http://www.gnu.org/copyleft/fdl.html) or CC BY 3.0 (http://creativecommons.org/licenses/by/3.0)], via Wikimedia Commons

أصبحت مطارات العالم اليوم بمثابة مراكز تجارية فخمة! هذا ما أردده كل مرة أصل إلى أي مطار أو أغادر آخر. وهذا ما قلته عندما كنت أجول في مطار شتوتغارت قادماً من أبو ظبي على متن طيران «أير برلين» Air Berlin الذي وقع اتفاق تعاون مشترك مع طيران الاتحاد الإماراتي. فجولة في هذا المطار، الذي هو بوابة العبور إلى جنوب غرب ألمانيا، جعلتني أمرّ في صالاته الفسيحة المزنرة بالديكور المترف، وأتوقف أمام متاجره الراقية، وأتذوق أطباقه المتنوعة في مطعم «توب أير» Top Air Restaurant الذي هو المطعم الوحيد في مطارات ألمانيا الحائز على نجمة ميشلان.




من ذلك المكان ارتسمت في الأفق جبال «شوابيا» حيث تترامى على تلالها الخضراء وبين كروم العنب مدينة شتوتغارت التي قصدتها لأتعرف من جديد على عاصمة ولاية بادن فورتمبيرغ التي حصدت المركز الأعلى في المعيار العام للازدهار بين كل مدن ألمانيا.

اليوم الأول

يتوه الزائر من أين يبدأ مشوراه السياحي في شتوتغارت. فهنا المتاحف والمعارض والقصور والساحات التاريخية. أما أنا فاخترت ساحة القصر «شلوسبلاتز» Schlossplatz أكبر ساحات المنطقة لأغوص في عالم هذه المدينة التي تعد سادس أكبر مدن ألمانيا بعد برلين وهامبورغ وميونيخ وكولون وفرانكفورت. و»شلوسبلاتز» هي المكان الذي منه يبدأ السياح رحلتهم في عباب المدينة.

على الطرف الجنوبي من الساحة يربض القصر الجديد «نويس شلوس» Neues Schloss المليء بالتفاصيل المعمارية الفخمة التي ترقى إلى العام 1746. هذا البناء الضخم كان في الماضي المقر الرئيسي لملوك مملكة فورتمبيرغ التي قامت بين عامي 1806 و1918، أي مكان تواجد ولاية بادن فورتمبيرغ اليوم. لم تقلل السنوات الطوال من أهمية هذا المبنى، ولذلك بقي مركزاً للنفوذ والسلطة لأنه يحتضن حالياً العديد من الوزارات والإدارات الحكومية للولاية.

مسافة قصيرة قطعتها لأصل ساحة «شيلربلاتز» Schillerplatz التي تحمل اسمها تخليداً لذكرى الفيلسوف والشاعر والكاتب والمؤرخ الألماني فريديرك شيلر الذي رحل عن تلك البلاد عام 1805 تاركاً وراءه إرثاً أدبياً وثقافياً ضخماً أغنى المكتبة الألمانية والعالمية. ومن المعروف أن العرض المسرحي الأول لمسرحية شيلر «اللصوص» في مدينة مانهايم القريبة من شتوتغارت عام 1782، جعلت منه بين ليلة وضحاها أحد ألمع الشخصيات الأدبية في ألمانيا. وكيف لا، فهو إلى جانب غوته من مؤسسي الحركة الكلاسيكية في الأدب الألماني. ومن الممكن أن يستذكر كل من أحب قصيدته «نشيد الفرح» التي لحنها «بيتهوفن»، عندما يجد نفسه أمام تمثاله الذي يتوسط الساحة.

قادتني خطواتي إلى شارع الملك «كونيغشتراسيه» Königstrasse الذي تأسس في بداية القرن التاسع عشر خلال فترة حكم فريديرك الأول، أول ملوك مملكة فورتمبيرغ. و»كونيغشتراسيه» هو أحد أهم وأطول الشوارع التجارية في ألمانيا، يزدحم بالمتاجر والمراكز التجارية والمقاهي والمطاعم الممتدة على أكثر من كيلومتر. ومن الطبيعي أنكم ستمرون فيه، وستتبضعون من متاجره التي تمتلئ واجهاتها بأفخر الماركات العالمية والمحلية.

ولأن شتوتغارت هي مهد صناعة السيارات، عرجت إلى متحف «مرسيدس بينز» Mercedes-Benz Museum. هناك ارتسم أمامي تاريخ سيارة المرسيدس الطويل الذي يعود إلى العام 1886. ففي صالاته الفسيحة التي تتمادى على مساحة 16500 متر مربع، وعبر مستوياته التسعة، سيكون الزوار أمام 160 سيارة من هذه الماركة الرائدة. وتتنوع المعروضات من سيارات قديمة الطراز إلى آخر الابتكارات العصرية التي تغزو الأسواق العالمية بنجاح باهر.

ومن عالم المرسيدس انتقلت إلى عالم البورش حيث دخلت متحف «بورش» Porsche Museum الذي يحتضن 80 سيارة، بدءاً من أول منتجات الشركة عام 1948 وصولاً إلى الجيل الجديد من البورش 911 المتوافر بفئات متعددة، تختلف في تجهيزاتها ولكنها تتشارك في المفهوم العام نفسه والشخصية الفريدة التي تخاطب الفئة الشابة. ولاحظت في المتحف أن شركة بورش أخذت شعار شتوتغارت «الحصان الأسود» الذي يقف على خلفية صفراء شعاراً لسياراتها كتحية للمدينة التي منها انطلقت تلك السيارات الرياضية السريعة.

"Württembergisches Staatstheater II". Licensed under Public Domain via Wikimedia Commons - http://commons.wikimedia.org/wiki/File:W%C3%BCrttembergisches_Staatstheater_II.JPG#mediaviewer/File:W%C3%BCrttembergisches_Staatstheater_II.JPG
“Württembergisches Staatstheater II”. Licensed under Public Domain via Wikimedia Commons – http://commons.wikimedia.org/wiki/File:W%C3%BCrttembergisches_Staatstheater_II.JPG#mediaviewer/File:W%C3%BCrttembergisches_Staatstheater_II.JPG

 اليوم الثاني

شتوتغارت هي من أكثر المدن أناقة في ألمانيا. ووفقاً للكتيب السياحي الذي كنت أطلع عليه وأنا أتجول في أحيائها، علمت أن كارل أويغن دوق فورتمبيرغ كان مولعاً بمظاهر الترف وتبذير المال، وكان يحلم بجعل شتوتغارت «فرساي الثانية»، فقرر بناء القصور الشبيهة بالقصور الفرنسية. ولذلك شيد عام 1764 قصر العزلة «شلوس ساليتود» Schloss Solitude الذي يزيح الستار عن آخر روائع المباني الباروكية الملكية المشيدة على الأراضي الألمانية. وفي القصر يغوص الزائر في حياة قصور القرن الثامن عشر، وكيف كانت تعيش الأسر المالكة.

ونظراً إلى ما سمعت عن عظمة القصور في شتوتغارت ومحيطها، قمت برحلة إلى شمال المدينة. وبعدما قطعت مسافة 14 كيلومتراً وصلت بلدة «لودفيغسبيرغ» الشهيرة بقصرها الذي يحمل اسمها، قصر «لودفيغسبيرغ» Ludwigsburg Palace الذي بدأ بتشييده الدوق إيبرهارلد لودفيع فورتمبيرغ عام 1704 وهو بعمر السابعة والعشرين، ولم ينته من بنائه إلا بحلول العام 1733. وقد شرع كل من تعاقب على القصر في إضافة المباني الجديدة عليه، ليصل عددها اليوم إلى ثمانية عشر مبنى تضم 452 غرفة. وهذا ما يجعله أكبر وأجمل قصر باروكي في ألمانيا.

وأترك القصر، وأمرّ في حدائقه التي تتهادى حوله، لأعود من جديد إلى وسط شتوتغارت لزيارة حديقة «فيلهيلما» Wilhelma للحيوانات والنبات التي هي أكبر وأجمل حديقة حيوانية ونباتية في أوروبا، وقد استغرقت مرحلة تشييدها حوالى 11 عاماً، أي من 1842 إلى 1853. هنا ستجدون حوالى 9 آلاف حيوان من ألف فصيلة، تعيش إلى جانب مئات الأصناف من الزهور والنبات والأشجار التي تجعل من ذلك المكان فسحة للترفيه لجميع أفراد الأسرة، فهي تستقبل سنوياً ما يقارب المليوني زائر.

وفي أعالي «فيلهيلما» توجد محطة للقوارب يمكن من خلالها القيام برحلة في نهر «نيكار» الذي ينبع من الغابة السوداء. وقد اخترت إحدى الرحلات المخصصة إلى أسفل النهر حيث مررت بكروم العنب وبالعديد من البلدات الممتدة على جانبي النهر.

شجعتني الساعات المتبقية من ذلك اليوم لزيارة بلدة «متزنغن» التي ترتاح بسلام عند أقدام جبال «شوابيا». وتمتلك «متزنغن» أكثر من 40 مصنعاً لإنتاج أشهر الماركات العالمية، فضلاً عن متاجر لبيع تلك المنتجات بأسعار معقولة. وأثناء جولتي السياحية في البلدة دخلت مركز «أوتليت سيتي متزينغن» Outlet City Metzingen الذي أدهشني حقاً بالكم الهائل من الماركات العالمية والأسعار التنافسية المجتمعة تحت سقف واحد. إنه بالفعل جنة المتسوقين والمكان الذي يجمع الجودة والنوعية والحسومات المغرية التي تصل أحياناً إلى 70 في المئة. في ذلك المركز الذي يتألق بأشهر الماركات المعروفة أتيحت لي فرصة شراء مجموعة من الهدايا للأهل والأصدقاء.

اليوم الثالث

شتوتغارت مدينة حباها الخالق بموقع جغرافي مميز، وأحاطها بأبهى المناظر الطبيعية الحالمة. هذا ما لمسته وأنا متوجه في السيارة قاصداً بحيرة «كونستانس» Constance أو كما تعرف بالألمانية «بودنزيه». ساعتان كانتا كافيتين للوصول إلى عمق بلدة «كونستانس» وهي أكبر بلدة مطلة على البحيرة. وكم هي جميلة تلك البلدة التي تهب زوارها منظراً ساحراً لأكبر بحيرة في ألمانيا. لم يطاول «كونستانس» الدمار الذي أصاب العديد من المدن والبلدات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، فبقيت محافظة على إرثها المعماري والتاريخي الذي سيطالعكم من خلال تلك الأبنية الملونة التي لا تزال كما شيدت منذ زمن طويل.

في الشارع المعروف بـ «شارع البحر» المطل على شاطئ البحيرة، تمتد المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم التي تفوح منها رائحة الأطباق البحرية التي تدعو المارة لتذوقها والاستمتاع بمنظر البحيرة الهادئة. لقد كنت محظوظاً يوم زيارتي البلدة، فالطقس كان صافياً ومشمساً وهذا ما شجعني على القيام برحلة مائية على متن قارب صغير. وسط طبيعة خلابة وساحرة أبحرت في قلب البحيرة، فحدقت في الأفق، ليبرز أمامي الجانب السويسري الذي لا يبعد سوى دقائق قليلة. فتعجبت كيف فتحت البحيرة صدرها لتتقاسم زرقة مياهها الفيروزية مع ثلاثة بلدان أوروبية. طاف بي ذلك القارب الصغير على صفحة مياهها المتمايلة بخفة ودلال، فتعرفت عندها على تقسيم البحيرة الجغرافي الذي أعطى ألمانيا القسم الشمالي، والنمسا القسم الشرقي، وخصص القسم الجنوبي لسويسرا.

أبحرت حول جزيرة «لينداو» Lindau ،في الطرف الألماني، التي يعيش فيها حوالى 26 ألف نسمة. و»لينداو» هي بوابة العبور إلى البلدان المجاورة عبر وسائل النقل المختلفة من قطار ومراكب وحافلات. لم يتوقف المركب هنا، بل أكمل رحلته إلى وسط البحيرة حيث استقبلتني جزيرة «مايناو» Mainau بزهورها الفواحة. وبالرغم من وجودها على الأراضي الألمانية فإنها تمتلك أجواء البحر الأبيض المتوسط والبلدان الدافئة. أرضها مسرح مفتوح للزهور الاستوائية التي تعطر أجواء منتزهاتها وحدائقها حيث تتعالى أشجار النخيل وأصناف متنوعة من نبات الصبار، والبوغنفيلية المميزة بألوانها البهية التي تتراوح بين الأبيض والوردي والبرتقالي والبنفسجي. تلك النبتة تتسلق سياج المنازل والحدائق لتغطيها بأوراقها وأزهارها وتمنحها قدراً من الحياة والجمال.

على أطراف البحيرة منازل أنيقة ومنتجعات سياحية غاية في الروعة والجمال. عندها لن تعجب إذ تعلم أن أكثر من 6 ملايين سائح يتوافدون إلى تلك البحيرة الشهيرة بتدرجات مختلفة للون الأزرق وفقاً لعمقها. فأقصى الأماكن عمقاً فيها يصل إلى 396 متراً. ولا ننسى أن نهر الراين يصب فيها، إذ يدخلها من الجنوب بين حدود النمسا مع سويسرا، ويخرج منها على الجهة الألمانية ليصل إلى هولندا منهياً رحلته في بحر الشمال عند مدينة روتردام الهولندية.

هكذا تقدم شتوتغارت والمناطق المحيطة بها نفسها لزوارها، فتغريهم بكنوزها التاريخية التي رسمتها أسرة «فورتمبيرغ» الأرستقراطية، وتدعوهم لزيارتها لمع

+ -
.