من وراء الحملة العسكرية الأخيرة على القطاع.
ومن دون التوهم أن هناك تغييراً غربياً جوهرياً في دعم إسرائيل وقيادتها، فإن هذا القرار يشكل إشارة دولية إلى تبرّم دولي من الجموح الإسرائيلي الذي يدّعي القدرة على حسم المغامرات العسكرية التي سرعان ما تنقلب إلى ما سمّته نافي بيلاي المفوضة العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة «جرائم حرب محتملة»، يتوجب التحقيق في ارتكابها من قبل إسرائيل. تكرر الأمر منذ انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000، ثم من غزة عام 2005 في 4 حروب خاضتها.
ومثلما بدأت الحرب الأخيرة على غزة، كانت هي التي بدأتها عام 2006 ضد لبنان و «حزب الله»، ثم في حربيها في 2008– 2009 و2012 ضد «حماس» وغزة، تغيّرت أهدافها وارتبكت في إعلانها وغيّرت أولوياتها، لأنها في هذه الحروب كانت تعجز عن تحقيق الأهداف المعلنة، بدءاً من «تدمير قدرات» الخصم، وصولاً إلى طرح نزع سلاحه، انتهاء بالاكتفاء بضمانات بعدم إطلاق الصواريخ، لكن من فريق ثالث. في حال لبنان كانت الضمانة من واشنطن والمجتمع الدولي عبر القرار 1701. وفي حال غزة أعطى اتفاق عام 2012 موقع الضمانة لمصر، مقابل خطوات تقود إلى فك الحصار المضروب على القطاع منذ 2005. وفي ذلك الاتفاق قدمت «حماس» تنازلات للقاهرة، لم يقابلها الإسرائيليون بحد أدنى من التدابير تسمح لمليون و800 ألف فلسطيني في مساحة 360 كيلومتراً مربعاً، بأن يعيشوا وفق أبسط مقومات الحياة الإنسانية، إن عبر تمرير البضائع من المعابر الحدودية أو عبر البحر، حتى أنها منعت هؤلاء من التنقيب عن الغاز الذي يختزنه الشاطئ الغزاوي للإفادة من ثروة تقع في نطاق السيادة الفلسطينية، لعل استخراجه يعين القطاع على النهوض الاقتصادي. حتى أن أصواتاً إسرائيلية اعتبرت أنه لو سمح حكام إسرائيل لغزة بأن تتنفس اقتصاديا لما كانت «حماس» تسلّحت بمزيد من الصواريخ والأنفاق كوسيلة لفرض فك الحصار ولمنع خنق القطاع.
في الحرب الدائرة تدعي إسرائيل وجود عشرات الأنفاق كهدف معلن لحملتها، وأنها دمّرت 9 منها فقط، بعد أن قُتل عشرات من جنودها في محاولة تحقيق هذا الهدف، منذ أسبوعين. وهي أخذت تشبه بعض الأنظمة العربية في تأخير إعلانها عن جنودها القتلى ومحاولة إخفاء خسائرها، التي باتت «حماس» تسبقها في إعلانها، ثم يتبين أنها صحيحة.
ومن دون أوهام حول حقيقة ميزان القوى بين الدولة العبرية وتنظيمات المقاومة الفلسطينية، وقبلها اللبنانية عام 2006، فإن الحروب الأربع التي تشنها أثبتت أنه لم تعد لإسرائيل القدرة على أن تفلت العنان لآلتها العسكرية من دون أن تتكبد خسائر موجعة بالأرواح والاقتصاد، لا سيما حين يكون ما ترمي إليه أبعد مما هو معلن عسكرياً. فالهدف الفعلي الذي يقف وراء حملتها الأخيرة هو تدمير المصالحة الفلسطينية، ولجم اندفاعة السلطة للحصول على كامل مترتبات عضويتها في الأمم المتحدة، لا سيما حقها في مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائمها كدولة احتلال. وهي سعت للإفادة القصوى من الانشغال العربي والدولي بالحروب الأهلية المتوالدة، من سورية إلى العراق واليمن، وبالانهماك العربي بسعي إيران إلى تحصين مواقعها الإقليمية، وباستيلاد بعض الأنظمة للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة لإقناع دول الغرب بأن ما يجري فيها هو حرب على الإرهاب وليس ثورات على الاستبداد.
مثلَ هذه الأنظمة، سعت إسرائيل إلى استبدال نسفها المفاوضات مع السلطة الفلسطينية في نيسان (ابريل) الماضي بمزيد من الاستيطان، بالحرب على المصالحة بين الأخيرة و «حماس»، مستغلة صعود «داعش» في سورية والعراق، الذي يعطي الغرب الأولوية لمواجهتها، وبذريعة أنها تتقاطع مع تلك الأولوية بادعاء محاربة الإرهاب في غزة. إنها حرب فاشلة مرة أخرى. وإذا كان من فائدة للمقارنة، فهل بعد حرب الاقتلاع التي تنفذها «داعش» في حق مسيحيي الموصل والإخضاع لمسلميها (كذلك في سورية)، سيطول اكتشاف الدول الداعمة لإسرائيل أن ما تمارسه هو حرب إبادة للفلسطينيين بعد شيطنة سعيهم للتحرر من استبداد قادتها؟ فإسرائيل هي أمّ «الداعشيات» في المنطقة على مر العقود بالعقل العنصري الذي يقودها.