بقلم نقولا ناصر*
(ما عجزت الولايات المتحدة عنه في الضغط على ربيبها الإسرائيلي للقبول باستحقاقاته ليس من المتوقع ان تنجح فرنسا في تحقيقه)
بغض النظر عن عدم واقعية تنفيذ أي قرار يصدر عن الأمم المتحدة ومجلس أمنها لصالح قضية فلسطين العادلة، فإن مشروع القرار الفرنسي لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يوفر رعاية “دولية” لاستئناف مفاوضات فلسطينية جديدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي سوف يجبّ كل ما سبق للمنظمة الأممية أن أصدرته من قرارات يستند النضال الوطني الفلسطيني إليها ك”شرعية” دولية ويهدد بخسارة الرصيد القانوني والسياسي الذي تمثله هذه “الشرعية”.
ومواقف الفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية من مبادرة فابيوس إما رافضة أو متحفظة ومشترطة، فحركة “حماس” رفضتها وهي ليست عضوا في منظمة التحرير الفلسطينية، والجبهة الشعبية العضو في المنظمة قالت إنها “خطيرة ويجب رفضها جملة وتفصيلا لأنها بعيدة كل البعد عن قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة” و”متعارضة مع الثوابت الوطنية الفلسطينية”.
وبينما يعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن التوصل إلى “صفقة” سلام فلسطينية مع دولة الاحتلال “مستحيل تقريبا” في المدى المنظور، كما قال لفضائية العربية منتصف أيار/ مايو الماضي، فإن جولة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في مصر والأردن وفلسطين المحتلة الأسبوع المنصرم التي استهدفت استئناف “عملية السلام” تبدو محكوما عليها مسبقا بالفشل بالرغم من تأكيده على أن جهوده تتم ب”التنسيق” مع الولايات المتحدة.
فما عجزت الولايات المتحدة عنه في الضغط على ربيبها الإسرائيلي للقبول باستحقاقاته ليس من المتوقع ان تنجح فرنسا في تحقيقه.
إن حرص فابيوس خلال يومين من زيارته على تأكيد “التنسيق” مع الولايات المتحدة يرتهن المشروع الفرنسي لشروط الرباعية الدولية التي تلتزم واشنطن بها، ويحوّل أي رعاية دولية أو مؤتمر دولي يقترحهما المشروع إلى مجرد ورقة توت بالكاد تغطي على حقيقة كونه غطاء خادعا جديدا لاستئناف المفاوضات بمرجعياتها السابقة.
فعشية زيارة فابيوس هاتفه نظيره الأميركي جون كيري، وأعلن الوزير الفرنسي أنه “ليس في نية فرنسا إزاحة” الولايات المتحدة لأن “الموقف الفرنسي هو أن الولايات المتحدة قد لعبت وسوف تلعب دورا جوهريا للغاية في المسألة الإسرائيلية – الفلسطينية” ولأنه “لا يوجد أي معنى لاقتراح أي مشروع قرار سوف يصطدم بفيتو” أميركي، كما أعلن فابيوس.
وبالتالي فإن أي مشروع قرار فرنسي لا يعترضه الفيتو الأميركي في مجلس الأمن الدولي، وهو ما يقترحه فابيوس تحديدا، هو مشروع مطعون فيه فلسطينيا ولا توجد أي حاجة وطنية فلسطينية لتجربة المجرب لكن في “إطار” جديد.
فكبير الدبلوماسة الفرنسية بدا معنيا بتحريك “عملية السلام” في سياق الحرص الأميركي – الأوروبي المعهود على “إدارة الصراع” أكثر مما هو معني حقا بحل الصراع.
ف”الفكرة ليست أن نصنع السلام لكن أن ندفع الأطراف نفسها لتصنع السلام”، أي العودة إلى المفاوضات “الثنائية” لكن برعاية ظاهرها دولي هذه المرة، و”علينا أن نبذل قصارى جهدنا كي يبدأ الطرفان المفاوضات مجددا” لأن عدم فعل شيء يخاطر ب”إشعال الصراع” كما قال فابيوس خلال الزيارة.
فأفكاره “تهدف إلى خلق ديناميكية جديدة للمفاوضات تأخذ بالاعتبار التجارب التفاوضية السابقة” كما قال نظيره الفلسطيني رياض المالكي في مؤتمر صحفي مشترك مع ضيفه الفرنسي برام الله.
فأوروبا بعامة وفرنسا بخاصة اعتادت أن تتدخل بعد كل فشل أميركي في مواصلة “عملية السلام” للحفاظ على الاستمرار في إدارة الصراع بالتظاهر بوجود حركة في “العملية”، وأثبتت كل المحاولات الفرنسية والأوروبية السابقة في هذا السياق أن الحركة التي بدأتها كانت مجرد لعب في الوقت الأميركي الضائع، وما تزال الذاكرة الفلسطينية تتذكر مبادرة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي التي لم تكن تقل حماسا عن مبادرة فابيوس الحالية.
ولم تكن مثل هذه الجهود الفرنسية مجانية فقد قبضت ثمنها عقودا تجارية عربية بمليارات الدولارات من دون أن يجني العرب في المقابل أية مكاسب فلسطينية ملموسة سياسية كانت أم غير سياسية.
ومن هنا الحذر الذي أعرب عنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس عندما أعلن عشية زيارة فابيوس أنه “إذا أنضج المشروع الفرنسي في مجلس الأمن (الدولي)، وفيه ما نريد سنرحب به ونقبله، وإذا ليس فيه ما نريده لا نريده وإذا فيه ما لا نرغب لن نقبل به”، وعندما وصف المالكي الزيارة بأنها “استكشافية” ولذا “يجب عدم التسرع في إطلاق الأحكام” عليها.
لكن هذا الحذر يبدو قد تبدد بتأكيد الرئيس عباس والوزير المالكي بعد زيارة فابيوس على “التطابق” في الأفكار وعلى “الالتزام” بالأفكار التي “من شأنها العمل على إطلاق عملية السلام وبدء المفاوضات … ضمن مفهوم حل الدولتين”، ورحب المالكي بمبادرة فابيوس وقال إن القيادة الفلسطينية ستفعل كل ما يلزم لإنجاحها.
إن الفصائل التي أعلنت معارضتها ل”تدخل” منظمة التحرير الفلسطينية في تأليف حكومة جديدة للسلطة الفلسطينية بديلة لحكومة التوافق الحالية بحجة أن الأخيرة كانت قد تألفت بموجب “اتفاق الشاطئ” لتنفيذ بنود المصالحة الفلسطينية وبالتالي فإن “الإطار القيادي” للمنظمة هو الجهة المخولة بتأليف الحكومة البديلة لها كان الأحرى بها أن تطالب كذلك بأن يكون الإطار القيادي هو المخول بالتعاطي مع أية جهود دولية فرنسية أم غير فرنسية لاستئناف المفاوضات.
فمبادرة فابيوس أخطر كثيرا من تأليف حكومة لسلطة تقول إنها من دون سلطة في ظل الاحتلال، فترك الأمر للمنظمة بوضعها الراهن للتعامل معها يعني الاستمرار في السعي إلى إقامة دولة فلسطينية بموافقة الاحتلال ودولته عبر المفاوضات وهي الاستراتيجية التي أثبتت فشلها باعتراف الرئاسة الفلسطينية وفابيوس نفسه الذي سوغ مبادرته بفشل هذه الاستراتيجية طوال “40 سنة” مضت.
إن إسقاط الحذر الفلسطيني في التعاطي مع مبادرة فابيوس يبدو محاولة لعدم القطع مع ثوابت الاستراتيجية الفرنسية المعلنة تجاه الصراع العربي مع دولة الاحتلال أكثر مما هو موافقة على مبادرة فابيوس في حد ذاتها.
فعلى موقعها الالكتروني الرسمي تذكر الخارجية الفرنسية “10 مفاتيح لفهم موقف فرنسا”: أولها أنها “صديقة لإسرائيل وفلسطين”، فهي طوال خمسة وستين سنة منذ النكبة العربية في فلسطين “تدافع عن حق إسرائيل في الوجود” متغافلة عن عدم وجود أية حدود لها وعن توسعها واحتلالها، وهي التي اعترفت بمنظمة التحرير وأيدت تمثيلها كعضو مراقب في الأمم المتحدة عام 1974 وأدلت بصوتها لصالح فلسطين كدولة مراقبة غير عضو فيها عام 2012 وتحدث رئيسها أمام الكنيست عن إقامة دولة فلسطينية منذ عام 1982.
وثانيها أن فرنسا “تدين بلا تحفظ الأعمال الإرهابية”، أي المقاومة الدفاعية الفلسطينية، و”تلتزم التزاما كاملا بأمن إسرائيل كمبدأ رئيسي لسياستها في المنطقة”، لذلك فإنها تدعو حركة حماس وغيرها من قوى المقاومة الفلسطينية إلى “الالتزام بالشروط التي حددتها الرباعية” الدولية، متجاهلة إرهاب دولة الاحتلال ومكتفية بدعوتها إلى “الالتزام بالقانون الإنساني الدولي” وممارسة “الاستخدام المتناسب للقوة” ضد المقاومة الفلسطينية.
وثالثها أنها “تدين نشاطات الاستيطان، غير القانونية في القانون الدولي” من دون أن تترجم إدانتها إلى أية إجراءات عملية ملموسة ومكتفية ب”إصدار توصيات تحذر” من مخاطرها المالية والقانونية على دولة الاحتلال ومن مخاطرها على سمعتها.
وفي الإجابة على سؤال “عن أي حل تدافع فرنسا” تقول رابعا إن “الصراع يمكن حله بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة وديموقراطية تعيش في أمن وسلام إلى جانب إسرائيل” على أساس بيان مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي لسنة 2009 (حدود 1967 مع “تبادل متكافئ للأراضي”، و”ترتيبات أمنية” للدولتين، و”حل عادل ونزيه ومتفق عليه لمشكلة اللاجئين”، و”ترتيب يجعل القدس عاصمة للدولتين”).
وخامسها أن “فرنسا لا تعترف بأي سيادة في القدس” بانتظار “تسوية متفاوض عليها للصراع” مع احترام “الوضع الراهن” لأماكنها المقدسة حتى ذلك الحين، وهو ما يعني ضمنا اعتبار القدس أرضا متنازعا عليها لا محتلة.
وعما “تفعله” تقول سادسا إن “فرنسا تلعب دورا قياديا” أوروبيا ودوليا في السعي إلى “حل الدولتين” و”تشجع” لهذا الغرض “استئناف المفاوضات” و”تجنب” أية افعال من جانب واحد وأي “تحريض على العنف”.
وسابعها تقديم الدعم للرئيس محمود عباس الذي يقف “في جانب السلام”، وثامنها أنها “تشجع المصالحة الفلسطينية” ضمن شروط الرباعية الدولية وهي شروط إسرائيلية في الأصل، وتاسعها أنها تناصر تعبئة عاجلة للمجتمع الدولي للخروج من “الطريق المسدود الراهن لعملية السلام”، وعاشرها أن “فرنسا سوف تعترف بالدولة الفلسطينية”.
في الأول من الشهر الجاري، لخص محرر النسخة الانكليزية لصحيفة “هآرتس” العبرية روي اسحاقويتز رأيه في مبادرة فابيوس بقوله إن الفرنسيين إذا أرادوا المشاركة في “حل حقيقي للصراع” فإن عليهم “أن يحددوا علنا بأن الاحتلال الإسرائيلي هو المشكلة الأساسية”، وعليهم أن “ينفذوا إجراءات” عملية مثل فرض “عقوبات” على دولة الاحتلال و”الاعتراف” بدولة “فلسطين الآن بدلا من تضييع الوقت في الأمم المتحدة” حيث “كل ما سوف يفعلونه هو إعطاء غوغاء الاستيطان الإسرائيلي مزيدا من الوقت وذلك بالنسبة لهم هو أوكسجين”.
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com