منذ الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم عام 2008، ربما يخشى البعض الضحك حتى لا يظن زملاء العمل أنه ليس لديه ما يفعله. ويفضل كثيرون رسائل البريد الإلكتروني على التحدث مباشرة إلى زملائهم المجاورين. فهل لم يعد هناك مكان للحديث بين رفاق العمل، أم أن الضحك قد يرسخ بيئة أكثر تماسكا وابتكارا؟
وماذا لو كان الضحك الجماعي ليس دليلا على سوء الأداء، بل أمرا يدعم التعاون وروح الفريق؟
لقد مرت سنين طويلة دون أن يعير العلماء الانتباه للضحك، لكنهم بدأوا أخيرا ينتبهون إلى منافعه.
فخلال العقدين الماضيين، بذل عالم الأعصاب الأمريكي روبرت بروفين الجهد الأكبر لمحاولة فهم الضحك.
ويقول بروفين، الذي يعمل حاليا أستاذا لعلم النفس بجامعة ميريلاند بمقاطعة بالتيمور، إن الضحك بين البشر يأتي على غرار الأصوات التي تصدرها الحيوانات للتواصل فيما بينها، ويضيف في كتابه الذي نشر عام 2001 بعنوان “الضحك: بحث علمي”، أن الضحك يعد “العلامة الأبرز للتواصل الاجتماعي بين البشر، فهو ركن أساسي للعلاقات”.
وبدراسة بروفين للمناسبات التي نضحك فيها، توصل إلى أننا عادة نضحك بمقدار ثلاثين ضعفا أكثر ونحن برفقة آخرين مقارنة بما لو كنا بمفردنا. ويركز بروفين في كتابه على القول إننا “كثيرا ما نغفل أن الضحك ممارسة تطورت بسبب ما تخلفه من أثر على الآخرين، وليس كأداة لتحسين المزاج أو الصحة”.
كما وجد بروفين أننا عادة ما نضحك خلال محادثات عادية أثناء العمل، إذ يأتي الضحك إثر عبارات لا تحمل الكثير، مثل “بإمكاننا فعل ذلك”، أو “أظن أنني انتهيت” أو “خذ هذا!” وأغلبنا حينما يقرأ عبارات كتلك يسترجع مواقف مشابهة ضحك خلالها أثناء العمل، ولم يضحك لمزحة، بل في لحظة تقارب واسترخاء مع الزملاء.
وتقول صوفي سكوت، الأستاذة كلية لندن الجامعية، إن الضحك بادرة تصدر من اللاوعي وتشير إلى حالة من الأمان والراحة، وتدلل على ذلك بأن الكثير من الثدييات تصدر ردود فعل تشبه الضحك، لكن يمكن إيقافها عن ذلك من خلال تغير حالتها المزاجية.
وتقول سكوت: “الجرذان تتوقف عن الضحك إذا انتابها القلق، والأمر نفسه يحدث مع البشر، فالضحك عادة علامة على الاسترخاء وعلى شعور عام بالراحة بين أفراد المجموعة”، فالضحك بين مجموعة من الأفراد علامة على أن تلك المجموعة ليست في وضع تحفز.
وتكمن أهمية ذلك إذا علمنا أن أبحاثا أثبتت أن الدماغ في حالة الاسترخاء يكون أكثر قدرة على ربط الأفكار، مما يساعد على الإبداع.
ومضات الإلهام
وقد أجرى مارك بيمان، من جامعة دريكسل، وجون كونيوس من جامعة نورث ويسترن، دراسة لمعرفة ما إذا كان الضحك يساعد الإنسان على حل معضلات منطقية صعبة.
وعرض الباحثان على عينة من البشر موقفا كوميديا للفنان روبن ويليامز، تبعاه بمجموعة من الأسئلة.
وكشف الباحثان عن أن الضحك ولو لوهلة على موقف كوميدي كان له أثر في تحفيز القدرة على حل المعضلات بنسبة 20 في المئة، وعلل بيمان وكونيوس ذلك بأن الترويح عن النفس من خلال الضحك قلل التركيز بشكل مؤقت، مما أعاد لأذهاننا القدرة على التعامل بمهارة أكثر مع المفاهيم، والربط بينها بشكل لا يسمح به حتى التركيز الشديد.
ولربما كان الضحك أداة لإزالة التوتر من مكان العمل، فقد لاحظت تريزا أمابيل، الأستاذة بجامعة هارفارد، والتي أمضت أربعين عاما في محاولة فهم محفزات الإبداع، أن بيئة العمل الإيجابية تولد إبداعا أكثر من البيئة المتوترة، وهي النتائج التي كثيرا ما يُستشهد بها في مجال علم نفس العمل.
وباختصار فالتوتر عدو للابتكار، وهو ما تجزم به أمابيل، وتقول مازحة: “الإبداع تحت تهديد السلاح ينتهي به الأمر مدرجا في دمائه!”
“الاستعداد الدائم للضحك”
الضحك إذا له وظائف عديدة، فهو يحقق ترابطا أقوى بين أفراد الفريق، ونتيجة لهذا يعبد السبيل أمام الإبداع وتوالد الأفكار الخلاقة، والسؤال هو: كيف يتسنى لنا تحقيق المزيد من ذلك؟
يقترح بروفين أن يكون المرء “أكثر استعدادا للضحك” – ولا يخجل من ذلك، ويقول: “يمكنك أن تعمد للضحك أكثر بأن تجعل أشياء أبسط تثير روح الدعابة لديك. فقط كن مستعدا وراغبا في الضحك”.
كما يقترح تنظيم مناسبات اجتماعية بوتيرة أكثر – من قبيل حفلات لموظفي الشركة بهدف الجمع بين البشر في أجواء ودية، بخلاف الاجتماعات التي يجلس فيها الموظفون يحملقون في شاشات عرض الأعمال.
وتعزز هذا الاقتراح دراسة رائدة في مجال ديناميكية العمل للأستاذ أليكس بنتلاند، أكد فيها أن أجواء العمل الحديثة مدينة بالكثير من إنتاجيتها لأشكال أقدم من التواصل.
وفي محاضرة ألقاها عام 2014 بشركة غوغل، قال بنتلاند: “البريد الإلكتروني لا يحفز على الإنتاج أو الإبداع”، أما التواصل والمحادثات المباشرة فلها باع طويل في تعزيز القدرة على الإنتاج، مضيفا: “نحو 30 و40 في المئة من حصيلة الإنتاج تبدأ بحديث بين مجموعات العمل”.
ومع تعثر الوضع الاقتصادي، يقول البعض إنه لا مكان للحديث والضحك أثناء العمل، ويعتبرون ذلك مضيعة للوقت، لكن تذكر أن العلم يقف إلى جانبك، وفي المرة القادمة التي يجدك أحدهم تضحك أثناء العمل، عليك أن تستشهد بدانيال كانمان، الباحث الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، فمن يدري ربما ينزل عليك الإلهام هذه المرة!
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Capital