استوطنَ الغبارُ على جسدي، نخرتِ الرّطوبة ُ أحشائي، تشقّقَ جلديَ السّميك لم يعدْ لحروفي أيُّ معنى فقد أعمتْها الظلمةُ من طول ِالسنين. لم أتوقعْ نهايتي وإبعادي هناك…. منبوذاً ، مُهملاً ،منفياً ، بعيداً عن الأضواء، بعيداً عن مرأى الأعين، بعيداً عن لمسِ الأيادي بعيداً حتى عن رفاقي . فإذا- لمحوني – رمقوني بنظرةٍ بطرف ِأعينُهم وكأنني لا شيء سوى جسد هامد لا حياة فيه أصبح من ثرى التراب . أشعرُ وكأنّني في سجنٍ منفردٍ قد قُيّدتْ يداه لا يستطيعُ الحِراك ومُنعتْ عنه الزّيارةِ ، إلى أين وصلتُ ؟ ماذا حلّ بي ؟
كم تغيرتَ أيّها الزمن !! لقد تغيّر فيك كلّ شيء، لم يعدْ هناك من يبحثُ عني ويطلبي..
لم يعدْ أحد يشعر بي إنْ كنتُ موجوداً أم لا !! مؤلمٌ جداً شعوري بهذا الإحساس … تختفي العَبرة وتضيع الكلمات عندما أبدأُ بعرضِ شريط الذكريات بمخيلتي ، فلا أستطيع إيقاف ألمي وحسرتي لتلك الأيام إلا بدمعة ِ أسى للأيام الماضية ،كنت فيها سيداً بكل معنى الكلمة يعتدُّ بنفسه ، واثقاً، مسيطراً ،مكانيَ في الصدارةِ برفوفِ المكتبةِ لي شأنٌ ومنزلة ٌ، رقمٌ خاص بي لي مجموعة خاصة ولي مكانيَ المميز فقد كانوا يتهافتون يتقاتلون ويتنافسون من أجلي يدفعون أيُّ مبلغ في سبيل الحصول على شرائي من أجل أن ينعموا ويستفيدوا مني بثروة العلم والمعرقة. لقد اشتقت لتلك الأصابع التي تقلب صفحاتي صفحةً صفحةً بشغف ٍولهفة ٍلقراءة واكتشاف ما بين الأسطر . كنت أشعرُ بقارئي شعور الدفء والحنان ،المتعة والتشوق أستمتعُ معه وهو يقرأ . كم أحنُّ لأيام الشتاءِ بلياليه الباردة العاصفة المثلجة عندما يضمني قارئي، لينعم بالدفء مع سماع صوت ألسنةِ النار الملتهبة تطقطق حولنا .يسترخي أمام المدفاةِ وكلّه لهفة وشوق للقراءة والاستفادة ، فيبدأ يقلِّب صفحاتي ويغوص في قراءة أجمل التعابير والأحاسيس. كم كنت أستمتع وأنا ملقى على صدره بعد أن أضفتُ لعقله مخزوناً فكرياً وثقافياً بمعلوماتي . يغلبه النعاسُ فيتلحّفُ بأحرفي في هدوءٍ وينامُ قريرَ العين . فالقراءة ُفي الشتاءِ تبعث دفئاً لا يفهمه إلا أولئك الذين يستشعرون متعة التّجوّل بين الأسطر والتلّحف بالأحرف في هدوء ! الذين يفهمون معنى أن يكون دماغك نشيطاً ودافئاً ومزدحما ً بكلماتٍ تتحرك في رأسِك بسرعةٍ وتُبقي دماغك في حالة حركة حتى لا …. تتجمد .
ولماذا التحسر والألم ؟ فلستُ الوحيد الذي أُهمِلَ !! أنا كتاب قديم نعم ، ولكن هناك رفاقي ما زالوا حديثي الطّباعة، وقليلٌ جداَ ممن يسألون عنهم .ربما السّبب هو تقدم التكنولوجيا ، فالحصول على المعلومات سهلٌ جداً هذه الأيام، فلا تقلبون صفحات ولا تدفعون مبلغاً فتأتيكم المعلومة جاهزة فلا داعي للجهد والتفكير والتعب .
أيّها الإنسان ما زلتُ ذلك الصديق الوفي الذي مهما قذفتُه بعيداً هنا وهناك لا أسالك لما قُمتَ بإبعادي !! لأنني أعلم أنّك ستعود إليّ وتستفيد ما في جعبتي من خيرةِ العبارات والكلام الجميل الممتع . فأنا لا أنكر أنّ هناك منْ يقرأْ وييستفيدْ مني ويحبني ويتمسك ولا يفارقني ابداً .
تمهّلوا أيّها السّادة !!! أسمعُ ضجيجاً حولي دعوني أسترقُ السمع َ لحظةً !! أحدُهم يقتربُ مني يمسكني ، يزيح الغبار عني ، يقلبني بين يديه، لقد تمسّك بي يا لفرحتي ، إنّه يتصفحني يقلبني صفحة ًصفحةً، أشعرُ به أشعرُ بابتسامته بفرحته، فلقد وجد ما يبحث عنه ، وجد تاريخٌ مدوّن ،حقائق الماضي، ثقافة الشّعوب السّياسية والاجتماعية، عرف أسماء الكتّاب والمؤرخين ، استعاد التاريخَ والتراثَ تاريخ الأمجاد والشعوب.
لقد استعدت حريتي وكرامتي واحترامي ،شعرت بوجودي . ما أعظمك أيّها الانسان كلّي ثقة أنّك لن تتخلى عني فقد وُجدتُ من أجلك فقط . أُقسمُ لك أنّك ستجدُ في صفحاتي ما تشاء من جمالِ التعبيرِ والذوقِ والإحساس ، فأنا وسيلةٌ لثقافتك ووسيلة ٌ لمتعتك ومُآنستك وسأساعدك بالتخلص من الملل والضجر .
أشكر الله هناك من احتاجني واستفاد مني وأنرت له دربَه فهناك من تيقّظ وانتبه وعدّل وقفتي على رف المكتبة، عادت لي الحياة أحسست بوجودي ها أنا ذا موجود !!!
أيّها القرّاء، أيّها الّطلبة، ثقوا بي فأنا من يسلّيكم ويمتّعكم ويثّقفكم ويعلّمكم ويوصلكم الى طريقِ الثّقافةِ والعلمِ والمعرفة ِ دائماً ستجدون بي المصدر الأول والأخير لكم ، فلتنهضوا بعزيمة ٍوإصرار للعطف على الكتاب المسجون على رفِّ المكتبة ، منذ أمد بعيد تصفحوه، ولو نصف ساعة يوميا…
__________________
* منى أبو جبل: مدرسة لغة عربية في إعدادية مجدل شمس
شكرا لك على هذا المقال …قراءة الكتب قيمة من القيم التي فقدها معظمنا..
كل الأحترام أيتها المعلمه المعطائه مع تمنياتي لك التقدم والأزدهار والى الأمام
لقد اوصلت الرسالة يا منى باسلوب سلس ومشوق فلك الاحترام