لا تتهرب فالآخرون يعرفون مكانك

أصبح الآن من الصعب أن تختلق الأعذار لمن يدقون أبوابك الالكترونية، وتقول إنك لم تكن موجودا، أو إنك كنت نائما، أو تقول لابنك قل لهم أبي ليس موجودا، إذ إن التطبيقات التي تضيفها إلى جهازك الذكي بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي الموجودة عليه ستتولى المهمة عندما تحاول أن تتهرب من أحدهم وستقول له ما كان ممكنا أن يقوله له ابنك الصغير: بابا يقول لك إنه غير موجود في البيت.

هذا تماما ما يحصل الآن فلم يعد باستطاعتك أن تمسك هاتفك وتتصفح رسائلك وملفاتك دون أن يستطيع الآخرون تعقبك وتتبع تواجدك من تطبيق إلى آخر، فآخر ظهور ومتصل وعلى بعد دقيقة وكان قريبا وبالقرب، كلها سبابات إلكترونية تشير إلى مكانك، فلن تستطيع أن تلبس طاقية الإخفاء وتدعي أنك غير موجود أو أنك لم تنتبه لرسالة من أحدهم، فإشارة استلام الرسالة وحتى بصمات عينيك ستكون إشارة واضحة تمتد بجانب الرسالة المقروءة كإشارة وعيد.

فعبارة “الدنيا صغيرة” يوازيها مصطلح شائع يقول إن “الدنيا ضيقة على الانترنت” ولهذا فإنك قادر من بيتك وعلى أريكتك المفضلة أمام التلفزيون في غرفة المعيشة الخاصة بك أن تتجسس على أصدقائك وغيرهم أيضا من خلال الشبكات الاجتماعية دون الحاجة إلى التحدث معهم أو إرسال رسالة أيضا، فقط راقب حضورهم في تطبيق أو موقع تواصل عن كثب، وشاهدهم بترقب من يعد ساعات اتصالهم بالشبكة، ولا تنس أن تخبرهم أنهم مكثوا ساعات طويلة على واتساب أو فيسبوك أو تانغو أو تليغرام أو غيرها من التطبيقات.

إعلان

إعلان

إعلان

وعبارة “فلان يدس أنفه في كل شيء” يوازيها الآن عبارة أكثر دقة ووضوحا تقول “فلان يدس عينه في كل شيء” وهي أداة التربص التي أتاحتها شبكة الانترنت وأعطتها تركيزا عاليا ومواصفات بالغة واستخدامات متعددة، وتلتقط مدة جلوسك على الانترنت بطاقة الفضول البشري وتسجلها أيضا في حافظة انتهاك الخصوصية والتطفل.

فليس باستطاعتك التهرب بعد الآن، فمجرد تهربك من أحدهم يجعلك تصبح متهما محتملا في نظره، وهذا ما سيزيد من ريبته تجاهك، ويجعله يعتقد بذهنية الجاسوس أن ثمة ما يستحق المراقبة لا محالة ويتعقب حركاتك في التطبيقات لتصبح مادة للوشاية او النميمة أو الممازحة أحيانا، فيكفي أن يقول لك “انت نايم ع الماسنجر الله يهنيك” هذا يعني أنه استغل جهازه الذكي جيدا في اقتفاء آثارك في الشبكات الاجتماعية الالكترونية.

وإذا كان الهدف من تطبيقات الدردشة والتراسل الفوري ومواقع التواصل الاجتماعي هو ربط البشر بعضهم مع بعض وتسهيل اتصالهم وتواصلهم بغض النظر عن جنسهم او أعمارهم أو دياناتهم وثقافاتهم ومكان إقامتهم، فإن المكان أصبح واضحا فليس مهما إن كنت تقطن أميركا مثلا أو السويد أو العراق أو الاردن أو مصر، فكانك معروف جيدا عند المتطفلين من شبكتك الاجتماعية، فأنت إما تقيم في واتساب أو ماسنجر أو تانغو أو بادو أو..الخ، هذا مسكنك الآن، فقد تكون في دبي مثلا وعلى هاتفك تطبيق واتساب بحساب رقم إماراتي، وتستطيع التحدث من التطبيق في كل مكان في العالم، فأنت حقيقة لست في بلد معين، أنت تسكن في واتساب.

قد تبدو هذه أفكار طريفة أو فانتازية بعض الشيء لكنها لا تبعد عن الحقيقة كثيرا، فالتطبيقات والشبكات الاجتماعية أصبحت عنوانا واضحا لك بدون خريطة أو إشارات على الطريق، ولا تستطيع أن تقول: لا يوجد عندي ما أخاف بشانه فليراقبني من يشاء، فيكفي أن تكتب حالتك في المكان المخصص لها في التطبيقات والشبكات، أشهر بالإنهاك مثلا أو بالحزن أو بالفرح لتجد التأويلات والظنون والهمسات الكثيرة والأسئلة المحرجة وتشديد الرقابة عليك من المحيطين لمعرفة ما يقلقك أو يسعدك.

الآن لم تعد أغنية “ابعتلي جواب وطمني” صالحة لهذا العصر، فالجواب موجود وحاضر من غير أن تبعثه، لا احد ينتظر منك جوابا تخبر فيه أين أنت أو كيف حالك، فأنت موجود على التطبيق الفلاني أو الشبكة الفلانية وحالتك مكتوبة وآخر ظهور لك في الرابعة فجرا، وبقيت متصلا طوال الليل وأنت على مقربة ضيقة وخانقة من الفضول والتطفل والتربص.

+ -
.