لا معقولية الواقع التونسي تتجلى روائياً

لم يخلُ المشهدُ الثقافي التونسي، منذ ثورة 14 يناير 2011، من ظهور أعمالٍ إبداعية أدبية وموسيقية وتشكيلية ومسرحية كان وكدها جميعاً الانصباب على أحداث ثورة الياسمين واستثمارها ثيمةً فنيّةً كثيرة الإيحاءاتِ الاجتماعية والثقافية والسياسية. غير أنّ بعضًا من تلك الأعمال ظلّ حبيسَ خانات الاحتفاءِ والتمجيدِ وابتزاز عواطف المتلقّي الوطنية، فلم ترقَ فيه الثورة إلى مرقى الهاجس الفكري الذي من شأنه أن يُخفِّفَ فيها من شُحنةِ الانفعال ويؤجِّجَ حولها الرغبةَ في السؤال. وتُعدُّ روايةُ «لن تُجَنَّ وحيداً هذا اليومَ» لأستاذة فلسفة الفن والجماليات بالجامعة التونسية أمّ الزّين بن شيخة المسكيني، الصادرة عن منشورات «ضفاف» و»الاختلاف»، عملاً لا يُخفي سعيَ صاحبتِه إلى جعله يُخالِفُ المألوف الروائي «الثوري» من حيث بِنْيتُه الفنيةُ ومن حيث مضامينُه السرديّةُ.

فوضى المَواجعِ

لا تَتَعَنَّى روايةُ «لن تُجَنَّ وحيداً هذا اليومَ» التَّأْريخَ لثورة الياسمين وما تلاها من وقائع، وإنْ ظلّت تلك الوقائع تتصادى فيها بلا انقطاع، ولا تتغيّا أيضاً تقويمَ أداء الأحزاب وصراعاتها على السلطة وتضييق أصحابها من أفق انتظار المواطنين في الحرية والدّيموقراطية والكرامة الوطنية، وإنْ لم تخلُ صفحةٌ منها من انتقاد شديد لجَشَعِ المتحزّبين وطَلَبِهم للكراسي، بل لا نزعم أنها أرادت أن تُوصِّفَ هجمةَ الأصولية السياسية على تونس بعد الثورة وميلَ أصحابها إلى تغيير ثقافة المجتمع الحداثية بأخرى مستجلَبة من عصور قديمة، وإنْ وقفنا فيها على كثير من مظاهر نَبْذِها لهذا الفكر الدخيل على البلاد، وإنّما أرادت أن تكون روايةَ الوَجَع التونسيّ الراهن: وجع المواطن وهو يصارع أمواج الفوضى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي فَجَّرها ضُعْفُ الدولة، ووجع الناس وخوفهم من تلك الثورة التي طلبوها بدمائهم فزادت من بؤسهم وعنائهم، ووجع المثقّف الذي حاصرته عودةُ الأصولية فأفقدته حريّةَ التفكير وجعلته عرضةً للجُنون والتَّكْفير «في بلاد بدأت منذ عام في اغتيال المبدعين وإهدار دم العقول الحُرّة باسم لاهوتٍ كئيبٍ».

وردت هذه الأسئلةُ محمولةً في حكايات الرواية التي بلغ عددها تسعًا وثلاثين حكايةً بدأت بـ «طوابير تحت جلدي» وانتهت بـ «حوار الصمّ يحرس الفراغ» وامتدّت جميعها على مساحة ثلاثِمئة وثماني عشرة صفحة، وفي كلّ حكاية منها وَجَعٌ مُرٌّ، ولكلّ وجعٍ فيها بطلٌ موجوعٌ بخيالِه وسُؤالِه. وقد توزّعت تلك الحكايات على فضاءَيْن: فضاء أوّل واقعيّ شمل مُدُنَ تونس العاصمة والشمال والوسط، وهي المدن التي شهدت احتجاجات عارمة على حكومتَي الترويكا بقيادة أحزاب حركة النهضة والمؤتمر والتكتّل، وفضاء ثانٍ مُتخيَّل صورتُه واحةٌ بالجنوب التونسي مثّلت مسرحاً يحكي عليه كلُّ المغيَّبين والمهمَّشين والمنبوذين اجتماعياً وسياسياً حكاياتِ أوجاعهم من سياسة تَيْنِك الحكومتيْن، وحكايات محبّاتهم التي انتهت جميعها إلى خسران أليم، وهو ما نراه سبباً جعل الفعل التخييليّ فعلاً مرآويًا محكوماً بيقظة فكريّة مثّلت سبيلَه إلى تعرية حقيقةِ الواقع والكشفِ عن مخفياته السياسية والأيديولوجية التي جعلت عموم الشعب مجرَّدَ مُمثِّلين من الدرجة الثانية (كومبارس) تحرّكهم أيادٍ خفيّة ليُنجزوا أدواراً باهتة لا يعود فيها عليهم إلا وجعًا وجنونًا.

وعلى مدار هذه الحكايات نُلفي الكاتبة أمّ الزين بن شيخة المسكيني التي كانت أصدرت مجموعة من الأعمال الفلسفية والأدبية نذكر منها «كانط راهناً أو الإنسان في حدود مجرّد العقل» ( 2006) و «الفنّ يخرج عن طوره، مفهوم الرائع من كانط إلى دريدا» ( 2011) و«تحرير المحسوس، لمسات في الجماليات المعاصرة» (2014) و«جرحى السماء» (رواية 2012)، تتوهّج رغبةً في تحرير السارد والمسرود وفواعل السرد وفضاءاته من كلّ قيد فنيّ حتى لكأنّ في الرواية نزوعًا إلى التماهي بحال مرجعها الواقعيّ، وذلك من حيثُ ما تُعلنه كثرةُ عناوينها الداخلية من تشظٍّ في بنيتها السردية تشظّياً لا نخاله إلاّ عنواناً لفوضى معيشة الناس وتنامي خِلافاتهم. غير أنّ الكاتبة عرفت كيف تربط بين شظايا قصصها برابط ثيميٍّ شفيفٍ تحوّلت بمقتضاه كلّ شخصيات مجتمع روايتها إلى «مُسوخٍ بشرية» مسحوقة تشيع منها روحٌ ملحمية ظلّت بها تُجيد «فقدان القدرة على البكاء، والتدرّب على التحديق في السماء إلى حدّ الموت»، وفي خلال ذلك لا تنسى الضحك على ذواتها وعلى ذوات الآخرين تخفيفاً من حدّة وجع الواقع وانصباب لعنة الثورة عليها.

لا معقولية السرد

لعلّ من صُورِ تلك اللعنة الثورية التي حلّت على شعبِ الثوّار امتناعَ حكومات الثورة عن الاعتراف بالشهداء عبر إحالة قائمة أسمائهم إلى لجنة لتتثبَّت فيها وتُثبِتَ للبعض منهم صفةَ الشهادة وتمنعها عن البعض الآخر، ومعاناةَ الأحياء فقدانَ عضو من أعضائهم الجسدية (على غرار فقدان شخصية «نهد» لأحد نهديها بسبب خطأ طبيّ، وفقدان صالح «الأعور» إحدى عينيه بسبب طَيْشِ رصاصات الأمن لحظة تفريق جموعِ المحتجّين بإحدى التظاهرات الشعبيّة بمدينة سليانة)، ونَوْءَ كل واحد منهم بثِقَلِ حمولة ذاكرته التي شوّهتها «حقنة النسيان» بمشفى «الرازي» للأمراض العقلية بمدينة منّوبة كما هي حال «أقحوانة» التي فقدت ذاكرتها هناك ولم تعد تتذكر هل هي زوجة «غريب» السابقة أو هي زوجة «نجم» مُصوِّرِ فيلمها الشَّبَحيّ، ونسيتْ مهنتها فلا يعرف القارئ أكانتْ مخرِجةً سينمائية أم كاتبةَ روايات أم صانعةَ أصنام سياسية وثورية. وهي أحوال مثّلت في الرواية سياقَها السرديَّ ومنحتها وحدةَ معناها. وإنَّ ما يظهر من اتحاد فواعل الرواية في صفة الجنون ومعاناتهم لعاهاتهم الجسدية هو ما جعل منهم كائناتٍ سرديةً مُشوَّهةً في أسمائها وأفعالها وعواطفها تشوُّهاً هو من الآفاق الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع التونسي بعد الثورة لوحةٌ كبرى له يحمل فيها الضدُّ ضديدَه، لا بل ويستدعيه إلى فضاء كينونته ليُعيدَ تفكيكَ تصوّراتِه عن الواقع وتأويلَ أحواله الجديدة. فإذا بالقارئ لا يدري هل البطلة «أقحوانة» هي نَسيخَةُ البطلةِ «ناهد» زوجةِ «غريب» الذي توفّي بحادث سيارة مشبوهٍ فظلّت تُعلّق صورتَه بالبيت وتُحادثها مرّة أو تحمل تابوته على ظهرها وتُخفيه عن الناس مرّة أخرى رافضةً موتَه وحالمةً بعودته إلى الحياة حُلمَها بعودة ماضيها؟ وهل في حكاية «أقحوانة» ما يرقى إلى محلّ سيرة الكاتبة الذاتية من جهة تضمينها لمقالات كانت نشرتها بإحدى الصحف اليومية التونسية؟ وهل تونس إلا «دولة لم يبق لها من وظيفة غير التغوّط العسير بأجسام بلا روح» حيث تحوّلت إلى واحة قاحلة جعلت منها أقحوانة فضاءً (بلاتو) لتصوير فيلم سينمائي استدعت إلى تمثيل مَشَاهِدِه طابوراً من مسوخ «مدينة الجنون» وشهدائها وجرحاها من العاطلين عن العمل حاملي الشهادات العلمية ليسرد كل واحد منهم جنايتَه ويحكي هزيمةَ أحلامه؟ وهل يجوز القول إنّ رواية «لن تُجنّ وحيداً هذا اليوم» إنّما هي هذا الفيلم الذي تشرف على تصويره «أقحوانة» وتحرص فيه على أن تكون أحداثُه غريبةً في بنائها وأن تكون شخصياتُه عجيبةً في ملامحها؟ ولِمَ لاذت الكاتبة بثيمة الجنون سبيلاً إلى تفكيك أسئلة الثورة التونسية التي رام الثوّارُ فيها تنظيمَ فوضى معيشتهم بإسقاط نظام ماكر زجّ بجموع الناس في سجن للجنون واعتمده منهجًا سياسياً لمراقبتهم وفضاءً عموميًّا لمعاقبتهم على حدّ عبارة فوكو؟

تعمّدنا طرح هذه الأسئلة التي استندنا في صوغها إلى أحداث رواية «لن تُجنّ وحيداً هذا اليومَ» لنُشير إلى كونها عملاً فنياً شيّدته الكاتبةُ أمّ الزين بن شيخة المسكيني على دعائم ثقافتها الفلسفيّة التي تنبئ بها تصديراتُها للحكايات بأقوال مختارة لأشهر الفلاسفة وتكشف عنها طبيعةُ تحليلها للأحداث المعيشة، ولم تنسَ في خلال ذلك تأثيث مَسْرودِها بالعجائِبِيِّ من الأحداث وغرائبِيِّها ما جعل روايتها ترقى إلى مراقي اللامعقول السردي من حيث هو مفهومٌ ذو منطِق خاصّ يساعد الكتابة على الخروج على كلّ المُتعارَفِ عليه روائياً من أشراط فنية تنتظم العلائق الاجتماعيّة والأخلاقيّة والثقافيّة بين الفاعلين السرديّين، وتنكّنها من استنبات مدلولاتِها البِكْرِ وتكييف حالِ الأفضيةِ المكانية والزمانيّة وهيئات الأحياء والأشياء وفقاً لما يخدم أهدافها الفنية والمضمونية.

وما نخلص إليه من عرضِ رواية «لن تُجنّ وحيداً هذا اليوم» للروائية التونسية أمّ الزين بن شيخة المسكيني هو سؤالنا: هل قَدَرُ شعوب الثورات العربية أن تظلّ مُسوخًا فارغة من كلّ بُعْدٍ آدميّ وتتحرّك دونما هدي أو غاية؟

+ -
.