إذاً، ليكن الحل في سورية في تكريس اللامركزية وقوننتها ومأسستها. ليكن الحل في شرعنة الواقع. إيجاد صيغة لتعايش الشظايا. تعجيل النهايات المتوقعة بعد سنوات من الصراع. نسخ سوري لما يحصل في العراق وسيحصل في بعض المنطقة. قوننة ما لعلاقة بين دمشق والمحافظات. بين مركز النظام والأطراف النائية. تعميم التجربة الكردية في إقامة إدارات ذاتية في شال سورية وشمالها الشرقي. إدارات محلية تسمح لأهلها بالتنفس بعيداً من الهواء الشمولي.
هذا هو الباب الجديد الذي يسعى عدد من الأطراف لطرقه بحثاً عن حل للمأساة السورية ضمن الظروف الراهنة، دولياً وإقليمياً ومحلياً.
دولياً، التفاهم الأميركي ـ الروسي أسير الأزمة الأوكرانية. تعطل الحوار وتفاقم، فعطل عملية جنيف بين ممثلي النظام السوري والمعارضة وفاقم المأساة. وضع الجسد السوري في ثلاجة مدماة. أميركا بلا دور قيادي. الرئيس باراك أوباما ملتزم خيار ناخبيه الانسحاب من الأزمات العسكرية. أولويته التركيز على الأوضاع الداخلية. وروسيا تبحث عن الثأر المتراكم من سقوط جدار برلين إلى «الخديعة الإنسانية» في ليبيا بحثاً عن القيادة في ما بعد «النظام العالمي الجديد». والصين تبحث بدورها أيضاً عن ترجمة سياسية لثقلها الاقتصادي.
نجح الطرفان الأميركي والروسي فقط في إخراج الكيماوي السوري وفي البحث عن معالجات سطحية لمنعكسات النزاع وتمرير قرارين دوليين من دون أسنان يتعلقان بالمساعدات الإنسانية. لا كلام جدياً في الوقت الراهن عن تطبيق بيان جنيف الأول لتشكيل «حكومة انتقالية». الدول الراعية غير متفقة على استئناف سريع للمفاوضات. المبعوث الدولي الجديد ستيفان دي ميستورا يفتش عن مرجعية لعمله. لا يريد أن يحيك من قماشة سلفيه كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي. خطاب تكليفه لم ينص على تطبيق بيان جنيف و»تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة بقبول متبادل» بين النظام والمعارضة. روسيا تريد أن تكون مرجعته منسجمة مع واقع ٢٠١٤ وليس منتصف العام ٢٠١٢. بقيت مرجعية رجراجة ورهن النيات.
«حلفاء» النظام يقدمون المدد العسكري والترياق السياسي والأيديولوجي من دون تردد. و«أصدقاء الشعب السوري» يفتقدون القيادة الأميركية. يبيعون الوعود والبيانات والاجتماعات. روجوا لـ «قوة الكلمة» على التغيير في ساحة معسكرة. يمررون أسلحة ومضادات دروع ما يكفي إلى عدم الاندثار، ما يكفي إلى بقاء النيران متقدة. يحـــاولون التنسيق في ما بينهم وبين «النواة الصلبة» وتجاوز هشاشتها.
إقليمياً، إيران وحلفاؤها ملتزمة دعم النظام بكل الوسائل المتاحة. قوى أخرى ترى الساحة السورية جرحاً نازفاً في خاصرة إيران. تأكد أنها تريد أن تكون سورية «فيتنام إيران». مزيد من النزف الاقتصادي والعسكري والمعنوي. إيران «منفتحة» على فهمها للحل السياسي بعد الانتخابات الرئاسية السورية. تحت سقف الولاية الثالثة للرئيس بشار الأسد. حل يشرعن واقع الحل ولا يفلت عنانه المسيرة. حل يعزز الموقف التفاوضي المتعلق بالدور الإقليمي في مفاوضات الملف النووي.
«سورية المفيدة»
داخلياً، يندفع النظام إلى سيطرة في «سورية المفيدة». يرسم على الأرض شريطاً عسكرياً من درعا المدينة جنوباً إلى اللاذقية في شمال غربي البلاد. يقضم المدن على الأرض ويسيطر على سماء الأرياف. يترك الريف والجبال والبادية إلى الإسلاميين والجهاديين. يدفع قواعد الصراع إلى معركة صافية بين الجيش النظامي ومواليه والإسلاميين. لا مكان للعلمانيين والمعتدلين. معادلة واحدة: النظام أو الجهاديون. «أمراء الحرب» باتوا أمراً واقعاً في سورية «المحررة» و «المفيدة». تختلف التسمية. اعتادوا المغانم. أدمنوا المال والسلطة، الثروة والنفوذ. ملكوا أدوات الترهيب والترغيب. لا يريدون في ضفتين الصراع، العودة إلى ما قبل ٢٠١١.
هذه القراءة، دفعت عدداً من الأطراف إلى البحث عن حل خلاق. الحل من فوق إلى أسفل غير مطروح حالياً. ليكن الحل من تحت إلى أعلى. يمكن القول للنظام إن زمن «الثورة من فوق» انتهى. ويمكن القول للنشطاء و»أمراء الحرب» إن الحل في «الثورة من تحت» ليكن الحل في اللامركزية، بل ليكن في الإدارة المحلية. تحديداً في القانون ١٠٧.
عندما تسلم الأسد الحكم، طرح في النقاش قانون الإدارة المحلية. دخل الأوروبيون إلى الصياغة وتقديم الخبرة في مسودته زمن الحديث عن الشراكة السورية ـ الأوروبية. وعندما باتت الشراكة بين دمشق وأنقرة، دخل الأتراك إلى النقاش لنقل تجربتهم الرائدة. بقي قانون الإدارة المحلية، أسير الأدراج قيد النقاش والأخذ والرد إلى ما بعد بدء الاحتجاجات. صدر القانون في ٢٠١١ بعد إدخال تعديلات على مسودته، جوهرها الإبقاء إلى صلاحيات الرئيس في تعيين المحافظين وعدم الاستقلال المالي عن المركز- النظام.
تلقفت أطراف عدة حالياً هذا الموضوع. رأت فيه نافذة لإحداث اختراق. النظام «موافق» على البدء بحل من هنا. القانون ولده المدلل. ودائماً ما كان يرى في الأزمة مشكلات محلية وليست سياسية. مشكلات تتعلق بالمخالفات التنظيمية ومصادرة الأملاك وليس في الهيكلية السياسية. سقفها «المحافظ» وليس النظام. كل لقاءات المسؤولين السوريين في بداية الأزمة كانت تدور حول «مطالب محلية مشروعة». أيضا، اتفاقات المصالحة المحلية بعد ثلاث سنوات من الصراع هي مبادرة من النظام بتشجيع من إيران ومباركة روسية. إيران، ترى أنها ساهمت في هذه الاتفاقات، بل إنها رعت بعضها وكانت الضامنة لأخرى. الاستعداد للتفاهم مع «المسلحين» وليس السياسيين. «أمراء الحرب» وليس «النشطاء». قادة المجموعات المسلحة وليس قادة «الائتلاف» المعارض.
نحو اللامركزية
دول غربية، ترى أن اللامركزية هي حل لسورية. وأنه، إذا كان العراق يسير في طريق تصل إلى حدود التقسيم، فان الواقع الديموغرافي في سورية غير مؤهل للتقسيم، بحسب تلك الأطراف، خصوصاً أن المنطقة تسير في هذه الطريق: السودان، ليبيا، اليمن، الأراضي الفلسطينية، العراق، وسورية.
بحسب أصحاب هذا الاقتراح، الذي يناقش في ندوات ومحادثات مع مسؤولين في عواصم غربية وإقليمية ومع شخصيات في «الائتلاف» المعارض، يمكن صوغ مشروع لمدة سنتين يصدر بقرار دولي وفق برنامج زمني محدد ومواعيد واضحة، يتضمن البدء بمحاولة تغيير الخطاب الإعلامي وتوقيع مزيد من اتفاقات المصالحة في النقاط الساخنة بما يسمح للقيادات المحلية بإدارة مناطقها وبروز قيادات سياسية وسيطة تترجم بإجراء انتخابات إدارة محلية ثم انتخابات برلمانية برقابة من الأمم المتحدة ودول محايدة (ليس فقط من مجموعة «بريكس» التي تضم روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا. والبرازيل أو حليفة مثل إيران وفنزويلا) على أن يجري حوار سوري ـ سوري بين الأطراف ذات الوزن السياسي بحثاً عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، يعقب ذلك صوغ دستور جديد يتعلق بصلاحيات رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، وصولاً إلى انتخابات رئاسية.
أحد «مفاتيح» هذا التصور، تشكيل مجلس أعلى لإعادة الإعمار يكون مستقلاً عن رئيس الجمهورية، يتضمن الكثير من الصلاحيات ويفتح المجال لإعادة إعمار سورية وإعادة دول غربية علاقتها عبر هذه البوابة. يشرع الباب للتوحد ضد «الإرهاب».
بعض الدول الأوروبية وافق عليه. دول كبرى متشككة بخلفية هذا الطرح. ودول غربية تدرسه، لكنها تشترط ألا يكون بديلاً من الحل السياسي و «الحكومة الانتقالية» وألا يؤدي إلى «محو» المعارضة وإذابتها وشرذمتها. تريد أن يكون هذا التصور أحد الأدوات وليس الأداة الوحيدة لأن «الحل الشامل» هو المطلوب. النظام أبلغ محاوريه الاستعداد للمضي فيه و«انتهاز» فرصة تشكيل الحكومة الجديدة. أيضاً، هذا هو أيضاً موقف طهران وموسكو.
يمكن أن يكون هذا التصور نقطة تقاطع مصالح محلية – إقليمية – دولية. ثورة من تحت بدل الثورة من فوق. معالجة العلل في جسم النظام بدل الإعدام. تغيير في ظل الاستمرارية. إعادة هيكلة من دون انهيار المؤسسات. محاسبة من دون ثأر. عدالة من دون انتقام. شراكة في السلطة من دون إقصاء. حياكة متينة للجغرافيا السورية في بحر الدم. ضمانات للموالين بأن الشراكة في السلطة لا تعني الإبادة. ضمانات للمعارضة بأن المشاركة لا تعني الاندثار. التزام التنفيذ. ضمانات لأسر القتلى والمهجرين أن تضحياتهم وآلامهم لم تذهب في مهب الريح. إشعال ضوء في نهاية النفق.
____________________________
* صحافي سوري من أسرة «الحياة»