
في خضمّ ما تشهده سوريا من أزمات متشابكة—سياسية وطائفية وعرقية—تطرح فكرة الفيدرالية كأحد الحلول المحتملة لبناء دولة عادلة، تضمن التمثيل الحقيقي لكل مكوناتها. لكن هذه الفكرة ما تزال تُقابل في الأوساط السورية بالكثير من الريبة والرفض، حتى من قِبل المثقفين والمعارضين. فما هو سبب هذا الخوف من الفيدرالية؟ وهل هي حقًا تمهيد للتقسيم؟ أم أنها، على العكس، الإطار الأنسب للحفاظ على وحدة البلاد؟
الفيدرالية ليست تقسيمًا
غالبًا ما يُربَط مصطلح “الفيدرالية” في الوعي الجمعي السوري بالتقسيم والانفصال، وكأنها مشروع غربي لتفتيت الدول. هذا الفهم مغلوط. فالفيدرالية لا تعني تقسيم الدولة، بل إعادة تنظيم السلطة فيها. الدولة تبقى واحدة، ذات سيادة، وعلم، وحدود دولية. لكن ضمن هذه الدولة، تُمنح صلاحيات أوسع للمناطق أو الأقاليم لإدارة شؤونها المحلية بما يتناسب مع خصوصياتها الثقافية أو العرقية أو الدينية.
دروس من العالم: دول فيدرالية ناجحة
في العالم الحديث، تُعتبر الفيدرالية من أنجح الأطر السياسية للدول المتعددة الأعراق والأديان والثقافات:
سويسرا: تُعد من أقدم النماذج الفيدرالية في العالم، وهي مقسمة إلى 26 كانتونًا (مقاطعة)، لكل منها صلاحيات واسعة تشمل التعليم والصحة والضرائب. وتضم البلاد أربع لغات رسمية، ويُعتبر النظام الفيدرالي أحد أسرار استقرارها وتماسكها.
النمسا: دولة فيدرالية تتكون من 9 ولايات، تتمتع كل منها ببرلمانها المحلي وحكومتها، مما يمنحها صلاحيات كبيرة في الشؤون الداخلية مثل التعليم والثقافة. وقد ساعد النظام الفيدرالي في النمسا على احترام التنوع المحلي وضمان توزيع متوازن للموارد.
ألمانيا: تتكون من 16 ولاية، لكل منها حكومة ودستور. وقد لعب النظام الفيدرالي دورًا كبيرًا ومركزياً في إعادة بناء البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وضمان توزيع عادل للثروة والصلاحيات.
كندا: تتكون من 10 مقاطعات و3 أقاليم، وتُعرف بنظامها الفيدرالي الذي يراعي الخصوصية الثقافية واللغوية، لا سيما في مقاطعة كيبيك الناطقة بالفرنسية.
الولايات المتحدة الأمريكية: تتألف من 50 ولاية، لكل منها دستورها الخاص وبرلمانها المحلي وعلمها الخاص، وتتمتع بقدر واسع من الحكم الذاتي. ومع ذلك، تبقى الولايات موحدة ضمن كيان فيدرالي قوي.
أستراليا: تضم 6 ولايات ومناطق، ولكل ولاية دستورها وبرلمانها، وتعمل الفيدرالية على تحقيق توازن بين المصالح الوطنية والمحلية.
الإمارات العربية المتحدة: نموذج عربي للفيدرالية الناجحة، إذ تتكون من سبع إمارات، لكل منها حاكمها ومجلسها التنفيذي، وتمتلك صلاحيات واسعة في مجالات الاقتصاد والتعليم والإدارة المحلية. ورغم هذا التنوع، نجحت الإمارات في بناء اتحاد متماسك منذ عام 1971، يجمع بين الاستقلال المحلي والتنسيق الوطني، مما ساعدها على تحقيق استقرار سياسي وتنمية اقتصادية سريعة، وجعلها أكثر الدول تقدماً ورفاهية في المنطقة، بل على صعيد العالم.
الحالة السورية: لماذا الخوف؟
يأتي الخوف من الفيدرالية في سوريا نتيجة عدة عوامل:
الإرث المركزي السلطوي: عاش السوريون لعقود في ظل نظام مركزي قمعي، ما جعلهم يربطون بين وحدة الدولة والمركزية، رغم أن الأخيرة كانت أداة للقمع لا للوحدة.
النسيج الاجتماعي المعقد: بسبب التركيبة المتنوعة من طوائف وأعراق (عرب، أكراد، دروز، سريان، علويون، سنة، مسيحيون، إسماعيليون…) هناك خشية غير مبررة من أن يؤدي الاعتراف بالتعدد إلى تفكك البلاد.
الخطاب التخويني: تم تجريم المطالبة بالفيدرالية في الخطاب الرسمي السوري، ووصمها بالخيانة والانفصالية، ما عرقل النقاش الهادئ حولها.
السويداء كجرس إنذار
أحداث السويداء الأخيرة، والمواجهات بين الدروز والميليشيات وقوات العشائر المدعومة من النظام، أعادت فتح النقاش حول مستقبل العلاقة بين المركز والمناطق. فكيف يمكن ضمان أمن وكرامة ومشاركة هذه المكونات من دون إعادة صياغة العلاقة بينها وبين الدولة؟ أليس الحل في إعطائها القدرة على إدارة شؤونها المحلية؟
نحو عقد اجتماعي جديد
الفيدرالية ليست تهديدًا لوحدة سوريا، بل يمكن أن تكون ضمانتها. فهي تتيح لكل مكون أن يشعر بأنه شريك في الوطن لا تابع له. كما تعزز من فرص التنمية المتوازنة والتمثيل السياسي الحقيقي.
ما تحتاجه سوريا هو عقد اجتماعي جديد يعترف بتنوعها، ويُخرجها من عقلية المركزية الاستبدادية وهيمنة جهة على أخرى. الفيدرالية ليست وصفة سحرية، لكنها إطار مرن يمكن أن يُبنى عليه مشروع وطني جامع.
الخوف من الفيدرالية في سوريا ليس نابعًا من جوهر الفكرة، بل من التجارب المشوهة وسوء الفهم والخطابات المضللة. آن الأوان لفتح نقاش وطني حقيقي حول هذا الخيار، كخطوة نحو بناء سوريا عادلة، موحدة، ومتعددة.
الخوف الحقيقي هو بمن يمسك السلطة اليوم ومن من يتحكم به.
كلنا نعرف ان القرار ليس بيد الشعب السوري وانما بيد قوى خارجية اللتي تتحكم بسوريا بشكل مباشر وغير مباشر ولا اظن ان هذا القوى واتباعها في سوريا معنيون فعلا بمصلحة السوريين.
والجولاني خير دليل على ذلك، من استفراده بالحكم وتهميش القوى الوطنية والسعي لاعادة الخلافة الاموية