في السنة المنصرمة، اهتزّت أسهم الصين وتبدّل سعر الـ«يوان» (العملة الصينيّة)، فارتعدت فرائص الأسواق والبورصات والعملات وأسعار الذهب والنفط. ولآجال طويلة، درج القول إن الولايات المتحدّة هي «قاطرة اقتصاد العالم»، فإذا اهتزّ اقتصادها، ارتعدت فرائص اقتصاديات الدول كافة، وعانت شعوب الأرض جميعها. والأرجح أن البرهان الأقرب على كون اقتصاد أميركا القاطرة التي تجر اقتصاد العالم بأكمله، كان الأزمة الاقتصادية التي استهلت في 2008 وما زالت تفاعلاتها وتعافياتها وانتكاساتها مستمرة.
هل باتت الصين هي «القاطرة الثانيّة» لاقتصاديات الكرة الأرضيّة قاطبة؟ الأرجح أن ذلك ما برهنته أزمة أسهم الصين وعملتها في العام 2015. واستطراداً، فالأرجح أن يطول الحديث عن «النموذج الصيني» ومدى نجاحه أو إخفاقه في تلك الأزمة، وكذلك الحال بالنسبة إلى دلالة حدوث تلك «الأزمة الصينيّة» التي تتشابه مع الأزمات المتكرّرة التي تشهدها الدول الصناعية الكبرى الراسخة القدم في نظام رأسمال السوق وقواه. هل خرج «النموذج الصيني» من أزمة يحتمل أن يصبح تكرارها جزءاً أساسيّاً من صورته؟ هل يوجد فعليّاً «نموذج صيني»؟ وماذا عن العلاقة بين الأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة في «النموذج الصيني» من جهة، ومساراته ونجاحاته وإخفاقاته ومآلاته من الجهة الثانيّة؟
في البحث عن… «علي بابا»
الأرجح أن ما سبق مجرد نموذج عن أسئلة تثيرها الصين المعاصرة. ويتبادر إلى الذهن سريعاً أن الصين واقتصادها، يملكان أبعاداً متشعبّة مع ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة. ولعل النموذج الأبرز عن ذلك الأمر هو موقع «علي بابا» Ali Baba للتجارة الإلكترونيّة («إي كومِرس» e- commerce) الذي يحتلّ الموقع الأول في ذلك النوع من المواقع، إضافة إلى كونه أحد أضخم المؤسّسات في الاقتصادين الرقمي والتقليدي.
وفي أحد المناحي التي تميّز الصورة الرقميّة للصين، تبدو شبكات التواصل الاجتماعي («سوشيال ميديا» Social Media) في بلاد «العم ماو»، ما زالت «مستقلة» عن بقيّة الشبكات عالميّاً.
ويشبه ذلك أيضاً القول أن محركات البحث الصينيّة (التي يهيمن عليها محرّك «بايدو» Baidu الشهير)، «مستقلة» عن محرّكات البحث عالميّاً. وبديهي القول استطراداً، أن هناك من يرى في تلك «الاستقلاليّة» عزلة خانقة خلف «سور الصين الرقمي» للرقابة الصارمة للحزب الشيوعي الصيني الذي ما زال ممسكاً بالسلطة والنظام والدولة فيها.
وقبل بضع سنوات، حاول محرك البحث «غوغل» أن يخترق ذلك «السور»، وساندته وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون ولجان في الكونغرس والبنتاغون. وربط الكونغرس والبنتاغون بين السماح لـ»غوغل» بالعمل بحريّة في الصين، وبين علاقات البلدين في التجارة والسياسة. لم يجد ذلك نفعاً. وانتهت تلك المحاولة إلى فشل ذريع، بل أن الحكومة الصينيّة لم تخف أبداً أنها تتمسك بفرض رقابتها على الإنترنت، وقدّمت لذلك ذرائع لا يتسع المجال أمام عرضها ونقاشها.
وفي صورة التواصل الاجتماعي، تهيمن شركة «تنسنت» Tencent التي يعتقد أنها مجرد واجهة للحكومة الصينيّة، على شبكات الـ»سوشيال ميديا» عبر موقعها «كوزون» Qzone المخصّص للتواصل الاجتماعي. وتضم شبكة «كوزون» قرابة 640 مليون حساب نشط، وهي الأولى للتواصل بين الناطقين باللغة الصينيّة أيضاً. وإذا كانت شبكات الإعلام الاجتماعي تعني بالنسبة إلى الجمهور العالمي، مواقع كـ»فايسبوك» و»تويتر» و»يوتيوب» و»إنستغرام»، فإنها بالنسبة إلى بلاد العم ماو، لا تعني سوى كلمة واحدة: «كوزون»! الأرجح أن ذلك مظهر مكثّف آخر لمعنى العيش المنغلق خلف «سور» رقمي عظيم، بل ربما يفوق «سور الصين العظيم» بما لا يقاس.
ووصل عدد سكان جمهوريّة الصين الشعبيّة إلى 1.4 بليون، يعيش قرابة 65 في المئة منهم في مناطق حضريّة. ويستخدم 642 مليون شخص الإنترنت من داخل الصين، ما يساوي انتشاراً لتلك الشبكة مقداره 47 في المئة، وتستحوذ شبكات الـ»سوشيال ميديا» على معظم ذلك الجمهور (قرابة 630 مليوناً)، ما يمثّل قرابة 46 في المئة من السكان.
وإذ تضمّ الصين 1.3 بليون مستخدم مستقل للخليوي، ما يساوي 93 في المئة من السكان، وهي إحدى أعلى النسب عالميّاً، فإن عدد الحسابات النشطة على الـ»موبايل سوشيال ميديا» يزيد على 520 مليوناً، ما يعني انتشاراً بين السكان بقرابة 40 في المئة، ما يقترب من المعدلّ العالمي (38 في المئة).
وفي منحىً متّصل، يظهر فارق كبير بين أعداد من يصلون إلى الإنترنت عبر الخطوط الأرضيّة الثابتة (75 في المئة) وبين من يتّصلون بها عبر الأجهزة اللاسلكيّة (25 في المئة). ويبعد ذلك قليلاً عن المعدل العالمي للاتصال بالإنترنت عبر الأجهزة اللاسلكيّة (38 في المئة).
«ثغرة» اللاسلكي!
في المقابل، تنقلب تلك الصورة إلى عكسها تماماً في استخدام «موبايل سوشيال ميديا». إذ سجّل قرابة 550 مليون حساب نشط على «موبايل سوشيال ميديا»، من أصل قرابة 630 مليون مستخدم لشبكات الإعلام الاجتماعي عموماً. ويعني ذلك ببساطة، أن صورة «سوشيال ميديا» مرتبطة في شكل وثيق بالأجهزة اللاسلكيّة النقّالة، وليس بالكومبيوتر المكتبي ولا المحمول.
في ذلك المعنى، يبدو أن ظاهرة التدوين الإلكتروني («بلوغز»)، تراجعت في شكل قوي في الصين. ويتّفق ذلك مع الحرب الطاحنة التي شنّتها الحكومة الصينيّة على المُدوّنات الإلكترونيّة وأصحابها الذين يقبع جزء منهم في السجن، فيما نجحت فئة قليلة منهم في مغادرة البلاد إلى الدول الغربيّة.
وتصل المدّة التي يقضيها الصيني على شبكات الـ»موبايل سوشيال ميديا» Mobile Social Media إلى قرابة ساعتين وأربعين دقيقة، بالمقارنة مع قرابة 4 ساعات من اتصال الفرد الصيني بالإنترنت عبر الأجهزة كافة. ويلاحظ زمن التواصل الاجتماعي للفرد الصيني عبر الأجهزة كافة، سواء متنقّلة أم ثابتة، يصل إلى ساعة و45 دقيقة، ما يعني أن مستعملي الأجهزة المتنقّلة (خليوي، «تابلت»…)، يقضون وقتاً أطول على شبكات التواصل، وهو ما ينسجم مع الصورة العامة لـ»موبايل سوشيال ميديا». وعلى سبيل المقارنة، لا يقضي الفرد الصيني سوى قرابة ساعة ونصف الساعة يوميّاً في مشاهدة التلفزيون! هل تتدخل السياسة والرقابة الحكوميّة الصارمة في ذلك الرقم، بمعنى انصراف الناس عما ربما يعتقدون أنه يُدار من قِبَل السلطة المركزيّة للحزب الشيوعي الصيني؟ لماذا لا تحول الرقابة الحكوميّة الصارمة دون استخدام الصينيين للإنترنت على نطاق واسع؟ تبدو الأسئلة كثيرة عن ذلك الأمر.