يشتهر البحر الميت بمياهه المالحة بشكل غير عادي، لكنه في الواقع يحتل الترتيب الخامس بين الأماكن الأكثر ملوحة على كوكب الأرض.
إن كنت تعتقد أن البحر هو المكان الأكثر ملوحة على وجه الأرض، فأنت محق في الغالب. فالماء يشكل أكثر من ثلثي سطح كوكبنا، و96 في المئة من مياه الأرض توجد في المحيطات. وتحتوي مياه المحيطات على آلاف مليارات الأطنان من الأملاح الذائبة.
وتختلف درجة ملوحة تلك المياه من مكان لآخر. فحول القطبين، يخفف الثلج والجليد من درجة ملوحة المياه، بينما في الأماكن الأقرب إلى خط الاستواء، حيث درجات الحرارة العالية، فإن التبخر يعني أن نسبة الملوحة تكون أكثر تركيزا.
بيد أن هناك أماكن على كوكبنا تجد فيها المياه أكثر ملوحة بكثير من مياه البحر.
وقليل من تلك الأماكن يحظى بشهرة البحر الميت، الذي تقارب درجة ملوحة المياه فيه عشرة أضعاف درجة ملوحة مياه البحر. ومع ذلك، فإنه ليس سوى في المرتبة الخامسة من حيث ملوحة المياه على الأرض.
كما أنه ليس بحرا حقا. فرغم أن كلمة “بحر” تستخدم بحرية تامة هنا، إلا أنها تشير في الأصل إلى كمية كبيرة من المياه المالحة المحاطة جزئيا بالأرض. ولأن البحر الميت محاط بالأرض بشكل تام، لذا فهو يعد بحيرة، وليس بحرا.
وتلمع الصخور عند حافة مياه البحر نتيجة وجود كلوريد الصوديوم المتبلور، حيث تبخر الشمس المياه. ويعد البحر الميت أعمق بحيرة شديدة الملوحة في العالم، إذ تصل أعمق نقطة فيه إلى 1.080 قدما (330 مترا)، والمعروف على نطاق واسع أنه يعد أخفض نقطة على سطح الأرض.
أما انخفاض سطحه بشكل عام عن مستوى سطح البحر فيصل إلى 420 مترا تقريبا، ومنسوب المياه فيه متقلب.
وبينما كان منسوب المياه يتقلص في السنوات الأخيرة، إلا أن علماء جيولوجيا إسرائيليين يعتقدون أنه سيستقر بدلا من أن “يموت” تماما. ونتيجة لذلك، فإن البحر الميت في المستقبل قد يصبح شبيها بالكتلة المائية الأكثر ملوحة في العالم حقا، وهي بركة من المياه المالحة تعرف باسم بركة “دون جوان”.
وتبلغ نسبة ملوحة المياه في بركة دون جوان، التي تقع في القارة القطبية الجنوبية، 44 في المئة. وهي بركة صغيرة جدا يبلغ عمقها 4 بوصات (10 سم) وهي لا تكفي للتجديف بالطبع.
كما أن البيئة المحيطة بها لا تصلح تماما للعلاج بالمياه المعدنية. وكانت هذه البركة قد اكتشفت في وادي “ماك موردو” الجاف، وهي ذات بيئة صحراوية قاسية، ومعزولة بين جبال لا تسقط فيها الثلوج.
ولم يطلق اسم “دون جوان” على البركة نسبة إلى الشخصية الخيالية الماجنة، بل نسبة إلى قائدي المروحية اللذين اكتشفاها في القارة المعروفة بصعوبة الوصول إليها، وهما “دون”، و”جوان”.
ويقول الجيولوجي جي ديكسون، من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في بسادينا، حول شدة ملوحة هذه البركة: “سبب شدة ملوحتها ليس مفهوما تماما”. وكان ديكسون قد أمضى سنوات في دراسة البركة مستخدما تقنية التصوير على مدى فترات زمنية محددة لتسجيل كيفية تغير المياه فيها.
ويضيف ديكسون: “أحد العوامل المهمة- وليس ذلك فقط لبركة دون جوان- هو أنها حوض مياه مغلق. فالحوض المفتوح هو الذي تتدفق إليه المياه، وله قناة تستنزف من خلالها. بينما الحوض المغلق لا يتمتع بهذه الخاصية، لذا فأي ماء وملح يُجلب إلى البركة لا يمكن أن يخرج منها”.
وفي هذه المرحلة، يمكن للماء إما أن يتجمد أو يتبخر. ويوضح ديكسون بالقول: “توجد في بركة دون جوان كمية كبيرة جدا من الملح لدرجة أنه يتعين أن تصل درجة الحرارة إلى 53 درجة مئوية تحت الصفر لتتجمد المياه فيها، لذا فإن المياه تتبخر. وهذا جزء من العملية التي تجعل ملوحتها شديدة التركيز”.
وفي حين أن البرك الأخرى في القارة القطبية الجنوبية تغذيها مياه عذبة من الأنهار الجليدية المجاورة التي تذوب في فصل الصيف، فإن بركة دون جوان لا يخفف ملحها بهذه الطريقة.
ويقول ديكسون إن الباحثين لا يزالون يحاولون معرفة من أين تأتي المياه المالحة. ولكن بما أن الملوحة تصف الملح الذائب في الماء، فعلينا التحرك من السوائل إلى المواد الصلبة لإيجاد تراكمات للمعدن قد تحقق أرقاما قياسية حقا.
ويوجد أكبر سهل ملحي في العالم في بوليفيا، ويدعى” سالار دي أويوني”. وتبلغ مساحته أكثر من 4,050 ميل مربع (10,500 كم مربع) وكان قد تشكل عندما جفت بحيرة ضخمة تحته في عصور ما قبل التاريخ.
والحوض الآن مرصوف ببلورات الملح المتضخمة التي تمتد على بعد النظر. وكما يوحي وصفها فهي مسطحة بشكل ملحوظ، وهي متفاوتة في الارتفاع بقدر أقل من متر واحد.
ويتدفق السياح إلى المنطقة مظهرين إعجابهم بمظهرها الذي يبدو خارقا، بينما تزورها طيور “البشروس” للتكاثر. ويوجد تحت القشرة البلورية الصلبة محلول ملحي غني بالمعادن.
ومن بين أمور أخرى، فإنها تحتوي على نصف إمدادات العالم من مادة الليثيوم. وكانت الحكومة البوليفية قد بدأت مؤخرا استخراج ذلك المعدن اللين الثمين الذي يستخدم في صناعة بطاريات أجهزتنا الإلكترونية.
وكان الملح يستخرج من سهل “سالاري دي أويوني” على مدى قرون. ومع ذلك، فإن عمال المناجم الذين استخدموا المعاول والمجارف للحفر وتكديس الملح كي يجف لم يخدشوا إلا سطحه فقط.
وفي بعض الأماكن الأخرى، وبتشجيع من الطلب الدائم على الملح، سواء للغذاء أو لرشه على الطرقات الجليدية في الشتاء لإذابة الجليد، استخرجت كميات أكبر بكثير من تلك المادة البيضاء.
وتعتبر أستراليا واحدة من أكبر الدول المصدرة للملح في العالم. فهي تنتج 11 مليون طن من الملح كل عام، ،ترسل 90 في المئة منه إلى الأسواق الخارجية.
والطريقة المستخدمة في ذلك تدعى “إنتاج الملح الشمسي”. وتعتمد على برك المياه المالحة التي تتبخر فيها المياه بفعل الحرارة الشديدة للشمس. وهذا يجعل من العملية الطبيعية المعمول بها في بوليفيا عملية صناعية، مما يوجد سهول ملحية من صنع الإنسان يمكن جمع الملح منها.
كذلك تساهم حقول الملح في الصين في إنتاج الملح بأرقام منافسة على الصعيد العالمي. ووفقا لأرقام صادرة عن هيئة المسح الجيولوجي الأميركية لعام 2016، فإن الصين تنتج أكثر من 70 مليون طن سنويا من الملح.
والملح الذي لا يتمكن الصينيون من حصاده من فوق سطح الأرض، فإنهم يستخرجونه من تحتها، سواء على شكل محلول ملحي يضخ خارجها، أو ملح صخري يُستخرج أو ينقب عنه بواسطة المتفجرات.
ويوجد أكبر منجم للملح في العالم على الإطلاق في غودريتش في كندا. ويصل عمق هذا المنجم الذي تديره شركة كومباس مينيرالز 1,800 قدم (549 مترا)، و يماثل عمقه ارتفاع برج سي إن في تورونتو. ويمتد على مساحة 2.7 ميل مربع (7 كم مربع) وينتج 7.25 مليون طن من الملح سنويا.
ويعتبر موقعه على حافة منطقة البحيرات العظمى السبب الرئيسي وراء كثره إنتاجه. وهناك مصدر قديم كبير للملح تحت تلك المنطقة، ويمتد من تحت الحدود الكندية إلى شمال شرقي الولايات المتحدة. وهو من بقايا بحر وجد قبل حوالي 420 مليون عام قبل التاريخ.
وهناك العديد من مستودعات الملح الأخرى المماثلة. ويقول والاس بولين، المتخصص في مجال استخراج الملح في المركز الوطني لمعلومات المعادن التابع لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية: “الرواسب الضخمة من الملح الصخري الصلب معروفة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك حوض ميشيغان في شمال شرقي الولايات المتحدة، وجنوب شرقي كندا، وفي جنوب غربي الولايات المتحدة، وساحل الخليج الأميركي، وشمال غربي أوروبا، وغربي كندا”.
وفي أوروبا أيضا مخزون هائل من المعادن. وهذا المخزون المعروف باسم “حوض زكستين” كان قد تشكل خلال فترة العصر البرمي قبل ما بين 250 إلى 270 مليون عام. وتمتد تلك المنطقة من شمال بريطانيا عبر بحر الشمال إلى هولندا والدنمارك وألمانيا وبولندا.
وقد كانت شعوب العالم الغربي تبحث عن مواقع رواسب الملح القيمة هذه لمئات السنين. ومع ذلك، فربما كنا قد أغفلنا بعضا من أكبر هذه المستودعات.
ويقول بولين: “لقد تركز الكثير من الاهتمام على مدى قرون عديدة على تحديد مواقع رواسب الملح الكبرى في أوروبا وأميركا الشمالية، لذا فإن مناطق رواسب الملح الكبرى في أماكن كأفريقيا وآسيا قد لا تكون معروفة بنفس القدر”.
وربما تكون روسيا بلا عجب- وهي أكبر دول العالم من حيث مساحة الأرض- هي موطن لأكبر مناجم وسهول الملح، والتي تكون في شكل بقايا شاسعة من البحار القديمة المغلقة تحت الأرض والتي تبخرت بمرور الزمن.
وأشارت دراسة شاملة نشرت عام 1969 إلى أن حوض “كاما العليا”، غربي جبال الأورال، هو موطن أكبر رواسب للملح الصخري ومحاليل كلوريد الصوديوم في العالم. وكانت بلدة سوليكامسك قد تأسست في القرن الخامس عشر فوق ذلك الحوض للتنقيب عن الملح. ولا تزال تلك البلدة تنتج البوتاس (أملاح البوتاسيوم) حتى اليوم.
واحتلت سوليكامسك العناوين الرئيسية للأخبار مؤخرا في أعقاب تشكل حفرة هائلة في الأرض نتيجة فيضانات تحت الأرض في ذلك المنجم الضخم. وفي سبتمبر/أيلول عام 2015 قيست تلك الحفرة وقدر عرضها بأكثر من 394 قدما (120 مترا).
وبشكل عام، فإننا نعرف الكثير عن مناطق رواسب الملح على كوكبنا. ولكن، لأن التركيز في البحوث غالبا ما يرتبط بقوة بالقيمة الاقتصادية، فمن الصعب معرفة أي أكثر الأماكن ملوحة بشكل قاطع.
ويقول تيد نيلد، محرر مجلة “جيوسيانتيست” العلمية الصادرة عن الجمعية الجيولوجية: “من الصعب تحديد ذلك. والمشكلة هي أن معظم المعلومات عن أكبر أي شيء يتعلق بالملح يتركز على المناجم، وقد لا تكون أكبر المناجم هي أكبر مواقع رواسب الملح”.
وفي الوقت الراهن، فإن أفضل ما يمكننا فعله هو القول إن المكان الأكثر ملوحة على وجه الأرض قد يكون بركة صغيرة في القطب الجنوبي، أو تحت منطقة نائية في روسيا. ولكن قد يكون أيضا في منطقة أخرى لم يفكر أحد بعد في سبر أغوارها.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Earth.