مستقبل الإنسان على الأرض.. ستحدده الابتكارات والتقنيات

مليونا عام من الابتكارات غيرت معالم أجسادنا، وعقولنا، وسلوكنا، وطريقة تفكيرنا، وأصبحنا أقواما بلغات معقدة. وملأنا الأرض، وأنشأنا علاقات معقدة مع بعضنا البعض، ومع العالم الطبيعي. كما وأن عبقريتنا الابتكارية أتاحت لنا حماية أنفسنا من أخطار الطبيعة، وتجاوز قيود أجدادنا وأسلافنا البيولوجية. لكن هذا الأمر لن يتوقف هنا، فمع استمرار وتيرة ابتكاراتنا وتطورها، سيستمر التغيير ليوصلنا إلى بعض المناحي التي قد يمكن تصورها.

* نهاية الشيخوخة

* ربما قد يتحول الأطباء إلى ما يشبه التجار يقومون بصيانة أجساد البشر بشكل دوري، ومن ثم مقاومة الشيخوخة وإطالة الحياة. وهذا قد يمكن البشر من دخول القرن الثاني من أعمارهم، وربما أطول من ذلك بكثير. والشيء المميز هنا هو أننا قد بتنا في منتصف هذه الثورة، كما يقول إندرز ساندبيرغ الأستاذ في معهد مستقبل البشرية في جامعة أكسفورد. وعندما تصبح الوفاة نتيجة الشيخوخة من الأمور غير العادية، تبقى الحوادث والأمراض المزمنة فقط هي التي تشكل الأخطار الكبيرة، مع زيادة سلامة البيئة وتعقيمها.

ولكن كيف ستتغير حياتنا أكثر فأكثر؟ أولا سيتغير إيقاع حياتنا، فمراحل حياتنا الـ7 ستصبح 6، إذ ستبقى الـ5 الأولى منها كما هي، أما الـ6 فستطول إلى ما لا نهاية، كما نقلت مجلة «نيوساينتست» عن أوبري دي غراي العالم في علم الشيخوخة، وأحد مؤسسي مؤسسة «سينس» للأبحاث في ماونتن فيو في كاليفورنيا، فمع بداية الـ50 سنة الأولى تبقى الحياة كما نعرفها حاليا، مع مراحلها الأساسية، مثل معالم البلوغ والمراهقة ثم الخصوبة المتقهقرة. وبعد ذلك يجري إيقاف التغيرات البيولوجية الحاصلة في صحتنا العامة باختيارنا نحن، سواء كان ذلك يتعلق أو يتأثر بمهنتنا، أو علاقاتنا، أو أي عامل آخر.

وستتغير حياتنا العائلية أيضا، إذ لن يظل الأجداد أحياء يعايشون أحفادهم فحسب، في غالبية مراحل حياتهم، بل سيحيا آباء الأجداد أيضا. وثمة سؤال يبرز إلى العلن هنا، هل سيبقى الزوج مع زوجته ذاتها طوال قرن من الزمن أو أكثر؟

وهذا التعايش بين الأعمار المختلفة قد يعرضنا إلى خبرات، وتجارب، وآراء واسعة جدا. ومثل هذا العيش الطويل قد يجعل الأشخاص يعتنون أكثر ليس ببعضهم البعض فحسب، بل بأشياء أخرى مختلفة أيضا، كالبيئة مثلا.

* آلات تتخذ القرارات

* وسيجري التعامل مع الكثير من المشكلات والمعضلات في الحياة اليومية، حتى الصغيرة منها، بالرموز الكومبيوترية الخاصة، مثل ماذا نقرأ؟ أو إلى ماذا نصغي؟ ومن نتعامل معه ونتواصل اجتماعيا؟ وإلى أين نذهب؟ كل ذلك سيجري عن طريق الخرائط التي توجهنا، والتطبيقات التي تملي علينا أفعالنا متى وصلنا إلى وجهتنا، ومع تزايد معرفة الآلات بنا، ستزداد وتيرة هذه الأمور، مما يجعل حياتنا تدار بالعالم الافتراضي الذي يتوقع كل التفاتة نقوم بها.

قد يبدو هذا الأمر بركة؟ ربما، فثمة أدلة تشير إلى أننا سنتحرر من الخيارات وعبوديتها. لكن بماذا سنشغل عقولنا بدلا من ذلك؟ نحن جنس اجتماعي، وقد نلهو مع أطفالنا أكثر، مع وجود مزيد من الوقت لنقضيه معهم، ومن ثم قد يتعزز العامل الاجتماعي، ويصبح أكثر أهمية وبروزا.

بيد أن عالمة الأعصاب فالاري رينا من جامعة كورنيل في نيويورك تعتقد العكس وعدم التسليم للآلة بسرعة لاتخاذ القرارات بدلا عنا، فالخبرة والتجربة تساعداننا على تطوير أنفسنا وتعلماننا على تقييم المخاطر على سبيل المثال. وهذا ما يجعل أولادنا أحيانا لا يرتكبون أخطاء زملائهم ورفاقهم. فقدرة الأفراد على تقرير الخيارات هي من الأمور الأساسية تقول رأينا.

* أجسام حسب الطلب

* ومع تحول التقنية الاستهلاكية إلى عامل لا يمكن الاستغناء عنه يوما بعد يوم، يختار الكثير من الأفراد تعزيز وضعيتهم البيولوجية بالأنسجة والأعضاء المزروعة، فقد حل عصر البشر المصممون حسب الطلب. وأفضل مكان للشروع باختبار ما سيبدو عليه هذا المستقبل هو في حقل تحسين الجنس البشري. فسواء كان ذلك جيدا أم سيئا، فإن محاولاتنا لمعالجة المعاقين جسديا قد تتحول إلى محاولات لإعادة بناء أجسادهم وفقا للوضعية الطبيعية. لكن «عندما يحصل مثل هذا العلاج، فإن الشخص المعني قد يفقد فرديته»، كما يقول نايجل أكلاند الذي فقد ذراعه اليمنى في حادث صناعي. فالأطباء في هذا الصدد، يملكون قياسا واحدا يناسب الجميع. بيد أن البعض يعارض حاليا هذا الرأي، ولا يرون سببا في أن تزرع الجراحات الترقيعية ذراعا، أو ساقا يبدو كالذراع أو الساق الطبيعية. وهذه هي الفكرة العقلانية التي تكمن وراء «مشروع الأطراف البديلة» الذي تديره صوفي دي أوليفيرا براتا في لندن. فمشغلها قد يصنع لك ساقا مرصعة بالجواهر، أو ذراعا مغطاة بريش الطيور. فإلى أين سيقودنا ذلك عندما تصبح مثل هذه الأعضاء الصناعية من الأشياء الطبيعية التي ستعزز من قدراتنا البشرية، مما يمكننا مثلا من صنع ذراع تكون بجودة الذراع الطبيعية. ولماذا نتوقف هنا ولا نشيد واحدة تفوق بقوتها الذراع الطبيعية، وتكون أسرع منها بـ3 أضعاف.

وسيكون لكل طرف صناعي قدرات لا يستطيع الطرف البشري مجاراته. يقول أكلاند، «فعندما أدير رسغي بمقدار 360 درجة يندهش الناس، لكنهم لا يرون الحقيقة القائلة بأنني لا أستطيع مثلا العزف على البيانو، أو الطباعة بسرعة على الكومبيوتر، أو أشعر بيد زوجتي وهي تلامس ذراعي. فهم يرونني أفعل أمورا لا يستطيعونها، وهذا يجعلني أشعر بفرديتي وشخصيتي ثانية».

وثمة مخاوف من أن مثل هذا التعزيز للقدرات البشرية قد يطلق شرارة «سباق تسلح» بين أولئك الذين يملكون مثل هذه القدرات الجديدة، والذين لا يملكون، خصوصا الذين لا يستطيعون القيام بمثل عمليات الزرع هذه، أو الذين لا يتمكنون من مجاراة هذا الوضع الجديد والتأقلم معه.

* نهاية الخصوصية الفردية

* من ناحية أخرى يبدو أن حدود الحفاظ على الخصوصيات شرع يتغير أيضا، فكلما سمحت لنا التقنيات بعمليات المشاركة، كلما انغمسنا فيها أكثر، فمواقع التواصل الاجتماعي مليئة بالاعترافات، بينما مواقع الصور والفيديوهات زاخرة بترويج الذات. حتى إننا بتنا نثمن الآلات والمعدات التي تكشف علنا عن عواطفنا وأحاسيسنا. وبات الخط الذي يفرق بين حياتنا الخاصة والعامة، هشا رقيقا، فأندرو هودج مثلا عالم الرياضيات، وكاتب سيرة ألن تيورنغ، يكشف على موقعه في الإنترنت عن مثليته الجنسية. وهذا التحرر في كشف الأسرار الشخصية بات من الصعب معه التحكم بالمعلومات والسيطرة عليها، فحتى مع التشارك في إشارات التأييد والإعجاب (لايك) في «فيسبوك»، يتم الكشف عن أمور خاصة عن ذاتك، التي قد لا تعرفها أنت. والكثير من هذه الأمور تكشف عن الميول والانتماءات السياسية التي قد تكون عرضة للاستغلال من قبل الوكالات والهيئات المختلفة، وبالتالي تقرير أي الأشخاص الذين يمكن تجنيدهم لأغراض معينة، أو يكونون مرشحين لغايات محددة. فضلا عن أن ذلك يشكل مشروعا تجاريا كبيرا، سواء كان أخلاقيا أم لا.

والعالم اليوم بات غارقا بتقنيات التقصي والاستطلاع إلى درجة أن كل فرد يستطيع مراقبة الشخص الآخر ويراه. فالكاميرات تراقب كل شيء وتصوره وتشارك به مع الآخرين. ففي عالم المراقبة اليوم يحمل كل واحد منا في جيبه ما يدل عليه، ومكان وجوده، والذي عليه تحركاته.

وقد يكون مثل هذا المجتمع المفتوح مجتمعا أفضل كما تشير بعض الدلائل، لكن مثل هذا الانفتاح قد لا يتعادل في بعض البلدان مع الحريات العامة، وهنا تكمن المشكلة، إذ يحاول بعضها إزالة بعض المحتويات الحساسة من الإنترنت أو التقييد عليها، أو كما هو الحال عندما زرعت بعض الدول مخبرا واحدا بين كل 63 شخصا من المواطنين. فهل يمكن قياس ذلك مثلا على صعيد القرية الكونية التي نعيش فيها حاليا؟

* عالم الوفرة

* وإذا تمكنا من إتمام الأمور بوجهتها الصحيحة، فنحن نتجه إلى عالم من الوفرة، فالمواد المستعملة سيجري تدويرها عن طريق الطابعات الثلاثية الأبعاد التي ستنتج كل الأشياء، من الإلكترونيات الاستهلاكية، إلى الطعام ومواد البناء، مرورا بالمواد والأعضاء المركبة، فالتقدم الحاصل بالهندسة الجزيئية، سيجعلنا ننتج كل الأشياء من كل الأشياء، عن طريق إعادة صياغة الجزيئات من مادة وتحويلها إلى مادة أخرى، فالابتكار سيصبح أكثر قيمة من إنتاج السلع، استنادا إلى ستيوارت أرمسترونغ من جامعة أكسفورد، وبذلك سيزداد تقديرنا للأشياء القديمة، مقابل الجديدة منها، وتصبح التحف من الندرة في عالم يقوم بتدوير ما جرى التخلص منه بكفاءة عالية جدا. ومع مستقبل كهذا، تصاب روابطنا مع العالم الطبيعي بالتفكك شيئا فشيئا، فإذا بات بمقدورنا إنتاج اللحوم والخضار صناعيا، مع اختفاء الزراعة، هل سنقوم بعد ذلك بتجنب الذهاب إلى الريف، أم سنحن إليه أكثر؟ الإشارات الحالية تقول إنه بدلا من عزل أنفسنا عن البيئة، فإن التقنية ستقربنا منها، فالتنوع البيولوجي ليس بدعة. وفقا لبين نوفاك من مؤسسة «لونغ ناو فاونديشن» التي مركزها مدينة سان فرانسيسكو.

والأقطار الغنية اليوم تملك القدرة على زيادة التركيز والتأكيد على الحفاظ على البيئة، وإقامة الحدائق العامة، والمحميات الطبيعية التي يتزايد عددها باستمرار. وسيجري إنعاش بعض أنواع الحياة البرية بعدما وضعت خطط لمقاومة انقراض بعض الفصائل الحيوانية والنباتية. فالتنوع البيولوجي والحفاظ عليه يمثلان الكون بكل تعقيداته، ذلك المصدر الواسع للمعلومات، بل ذلك اللغز الكبير الذي يستعصي على الحل كما يقول نوفاك.

بيد أن كل ذلك قد لا يجعلنا بالضرورة نحن البشر سعداء، فإحدى السمات البشرية هو عدم الرضا أو الاكتفاء، وهذا أحد الأسباب إلى حد ما الذي يدفع بالتقدم التقني، استنادا إلى إيان تاترسال العالم في المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي في نيويورك. فحتى لو تمكنا من الحصول على كل الأشياء التي نريدها، فلن نتوقف عن رغبة الحصول على الأشياء التي لم نحصل عليها بعد.

+ -
.