كان لتركيا أتاتورك دور كبير في النظام العالمي أيام الحرب الباردة. وقفت مع باكستان، إيران الشاه والسعودية في مواجهة الاتحاد السوفياتي. علمانية النظام لم تمنعه من استخدام إيمان مواطنيه لمنع الإلحاد الشيوعي من الانتشار. كانت أنقرة خط الدفاع الأمامي للإمبريالية الأميركية في مواجهة موسكو. ولعبت دوراً أساسياً ضد المد القومي في الخمسينات والستينات، على رغم فشل حلف بغداد.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في التسعينات فقدت تركيا دورها في مواجهة الشيوعية فراحت في عهد سليمان ديميريل وطانسو تشيلر (حزب الحقيقة) ثم نجم الدين أربكان (حزب الرفاه) تعمق دورها في محيطها العربي والإسلامي، وفي جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً في عهد أربكان. شكل اتجاهها شرقاً خياراً بديلاً لتوجهها الأوروبي، بعد اصطدامها بالجدار الألماني- الفرنسي. وصل هذا الانفتاح على الشرق إلى ذروته في عهد أردوغان الذي وقع اتفاقات إستراتيجية مع سورية والعراق، مثلما فعل الآن مع قطر، وبدأ يتحدث عن فتح البحار الأربعة على بعضها لتغيير الإستراتيجية العالمية وتشكيل نظام عالمي جديد مركزه الشرق الأوسط بدلاً من أوروبا وأميركا، تماماً كما كان الوضع أيام الخلافتين الأموية والعباسية، ثم أيام السلطنة العثمانية. من هنا كانت نظرية العثمانية الجديدة وصفر مشاكل لوزير خارجيته أحمد داود أوغلو.
هذا الطموح الكبير لأردوغان اصطدم بالواقع الجغرافي والوطني للدول المعنية بالمشروع، وبأيديولوجيا الإخوان المسلمين المرفوضة في العالم العربي، وبمحاولة أنقرة تنصيب نفسها زعيمة هذا التيار باعتبارها تمثل الاعتدال مقابل التيارات الأخرى المتطرفة التي أفرزها «الربيع». لكن هذا الحلم سقط في تونس ثم في مصر. وجاء إيغالها في الحرب على سورية وتحويل أراضيها إلى مأوى ومركز انطلاق لكل «المجاهدين» الذين أصبحوا عبئاً على مؤيدي التغيير في دمشق، مثلما هم عبء على النظام، وظهر الوجه الآخر لأردوغان. وجه العثماني الجديد- القديم الطامح إلى أن يكون خليفة. وللخليفة حق المتاجرة بالنفط المسروق وحق شرائه من «داعش» وغير «داعش» لتمويل المرتزقة و»الثوار».
لم تقتصر سياسة أردوغان على لعبة الدم في سورية، بل تعدت ذلك إلى العراق. في بلاد ما بين النهرين عمد السلطان إلى استفزاز بغداد، من خلال اتفاقات مع الأكراد من دون المرور بالعاصمة، في مخالفة صريحة للقوانين والأعراف، وأصبح يعامل رئيس إقليم كردستان كرئيس دولة مستقلة، يعقد معه الصفقات التجارية ويمد خطوطاً لأنابيب النفط، ويعادي الحكومة المركزية بحجة أنها طائفية. أي أنه نصب نفسه حامياً للسنة، فاستضاف الإخواني طارق الهاشمي، ولم يبخل على «الدولة الإسلامية» بشيء، على رغم تنافسه مع «الخليفة إبراهيم» على اللقب.
هكذا أعاد أردوغان تموضعه في الشرق الأوسط. فبعدما فقدت تركيا دورها السابق في مواجهة الاتحاد السوفياتي، عندما تحول العداء الأميركي من الشيوعية إلى الإسلام السياسي، خصوصاً في عهد جورج بوش، ها هي، في عهده، تستعيد هذا الدور، متسلحة بتاريخ السلطنة، في مواجهة روسيا الاتحادية الطامحة إلى إلغاء أحادية النظام العالمي، وإقامة نظام متعدد الأقطاب.
لكن أردوغان الذي رحب باستعادة هذا الدور يفضل أن يلعبه من موقع قوة لذا يسعى، عبر إسلامه السياسي إلى أن يكون زعيماً أوحد في الشرق الأوسط، ساعياً إلى إزالة الحواجز من طريقه. وقد أتته الفرصة الآن. فرصة أتاحتها له عودة المقاتلات الأميركية والخبراء للقضاء على «داعش» فأعلن عزمه على إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية ولم يحرك ساكناً عندما سيطر التنظيم على القرى الكردية المحاذية للحدود، مفضلاً أن تكون المنطقة في يد الخليفة.
في المقابل أتاحت إسرائيل لجبهة «النصرة» السيطرة على بعض القرى في الجولان تمهيداً لإقامة منطقة عازلة تحت سيطرة هذا التنظيم لتصبح سورية محاصرة بين دولة علمانية-إسلامية ودولة يهودية- علمانية، ولا ينقص المثلث الذي كان قائماً في الخمسينات والستينات سوى قاعدته أي إيران.
أما العالم العربي ففي مكان آخر. قواه «الثورية» بعلمانييها وإسلامييها ما زالت تبحث عمن تبيعه روحها على طريقة فاوست. وليس من شار سوى الولايات المتحدة.