نابولي الإيطالية مدينة التناقضات وجاذبية التاريخ

مدينة نابولي تكشف للزائر عن جميع تناقضاتها دفعة واحدة، فهي مدينة المافيا والمرح والتاريخ العريق والبيتزا اللذيذة. يظهر فيها انقسام المجتمع بشكل صارخ إلى طبقتين: الفقراء والأغنياء. تبدو وكأنها تعاني البطالة والفساد في كثير من مفاصل حياتها. ولكن للمدينة تاريخاً حافظت عليه، وكأنه سر قدرتها على مواجهة أزماتها المالية وعجزها عن تطوير الكثير من قطاعاتها. لذا بقيت مدينة جاذبة للسياح بالرغم من سوء سمعتها في ما يخص كثرة النشالين، وامتداد تأثير المافيا إلى الشارع.




وتشكل بيتزا نابولي أهم المحطات اللامعة في تاريخ المدينة وحاضرها وربما في اقتصادها، حيث تنتشر محلات البيتزا في كل شوارع المدينة القديمة. ومما لا شك فيه أن حكاية البيتزا بدأت في جنوب إيطاليا، وكان لنابولي الفضل الكبير في تطوير هذا الطبق، حتى أرتبط اسمها به. فحتى القرن السادس عشر كانت بيتزا نابولي طبق الفقراء، وبقيت إلى وقت طويل لا تدخل ضمن وصفات المطبخ التقليدية. وكان اختراع بيتزا مارغريتا محطة مهمة في تطورها. فهي خلدت ألوان العلم الإيطالي الأحمر والأخضر والأبيض لتشكل الهوية الدائمة. ففي عام ١٨٨٩ قرر أحد الطباخين في نابولي أن يقدم بيتزا مميزة لملكة إيطاليا حينها، وكانت تدعى مارغريتا، فأبدع هذه البيتزا التي أخذت اسمها من الملكة وحافظت عليه.

وحالياً توجد في نابولي أصناف وأشكال من البيتزا لا تعرف خارج محيط هذه المدينة، وتزدحم محلاتها في ساحة جيزو نوفو بيازا الشهيرة. وما أن يغادر المرء هذه الساحة، ويدخل شارع شبكا نابولي الشهير حتى يجد تحفة فنية من تحف المدينة الرائعة وهي كنيسة سانتا جيارا التي تشكل معلماً معمارياً وتاريخياً مهماً. فهي تنتمي إلى العمارة القوطية من سنة ١٣١٠. وحديقة الكنيسة من أهم المشاهد الفنية المثيرة للإعجاب في نابولي، بنيت سنة ١٧١٦ حيث زينت جدران الحديقة ومقاعدها وأعمدتها بألوان الأصفر والأخضر والأزرق، ورسمت عليها صور لحياة الريف والصيد والمهرجانات في القرون الوسطى. وما زالت الصور محتفظة بأدق التفاصيل رغم أن آثار القدم ومرور الزمن تظهر واضحة على بعض الجدارن. وقد نالت الحديقة نصيبها من قنابل الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكنها استطاعت أن تنجو بنفسها وتحافظ على سحر ألوانها وتفاصيل اللوحات التي رسمت عليها، جاذبة آلاف السياح سنوياً.

ولسكان المدينة طريقتهم الخاصة في شرب القهوة في المقاهي، وهو بار المقهى، حيث يتحلقون حوله ليرتشفوا قهوتهم على عجل، وتتنوع مذاقاتها لتلبي جميع الأذواق. في نابولي ليس هناك وقت محدد لشرب القهوة، ففي أي وقت دخلت المقهى ستجدها مزدحمة، فطقس شربها ممتد على طول النهار. ولكن زيارة المقهى الشهير كامبرينوس أمر لا بد منه، حيث يعتبر من أقدم وأشهر المقاهي في نابولي، يحتل موقعاً مميزاً في ساحة تريسته التي يختصر النظر إليها ١٥٠ عاماً من القصص والحكايات. إذ تمتد على جدران المقهى لوحات تنقل جزءاً من حياة الإيطاليين وخيالاتهم. واحدة منها صورة السيدة التي تتأبط شجرة الليمون، الثمرة التي ُتختصر إيطاليا بها. ويتدلى من سقف المقهى ثريات مختلفة الأحجام، فتضيف فخامة ضوئية على المكان. وكان المقهى منذ تأسيسه سنة ١٨٦٩ مقصداً للكثير من الفنانين والكتّاب، لذا سمّي بمقهى الفنانين أيضاً.

وما يميّز المقهى أيضاً لمسة إنسانية توراثتها الأجيال، بحيث يمكن للزبون أن يدفع ثمن قهوة مجانية لا يعرف لمن تكون، تقدم لأحد الفقراء الذين يرتادون المقهى، فإذا قدم أحدهم ووجد فاتورة معلقة ومدفوعة يعلم أن من حقه شرب فنجان قهوة مجاني أو الحصول على قطعة «كيك».

ليس بعيداً عن نابولي، تقع مدينة بومبي الشهيرة التي دمرها إنفجار البركان فيزوف، حيث بقيت مختبئة تحت رماد البركان ما يقارب ١٨٠٠ سنة. هي معلم آخر لا بد من زيارته، والقطار الحديث يربط بينها وبين مركز نابولي فيمكن الوصول إليها بسهولة. في بومبي مواقع عدة وأماكن كثيرة تحتاج إلى أكثر من زيارة لمعرفتها جميعها، ولكن السير في شوراع المدينة القديمة وتأمل الآثار هناك يؤكد أن شعباً متطوراً حضارياً وفنياً سكنها يوماً، حيث يوجد جرار لحفظ الطحين والنبيذ والزيت بقياسات وأشكال متعددة، وأعمال فنية فسيفسائية نقل معظمها إلى متحف المدينة. ولكن لوحة الكلب الفسيفسائية الشهيرة ما زالت موجودة محمية بالزجاج، وهي أهم اللوحات التي نجت من ثورة البركان.

وتوجد آثار لمنزل ما زال يحتفظ بلوحاته الجدارية الملونة والغارقة في التفاصيل ممتدة على كامل الغرفة المتبقية. وهذه محطة مهمة لا بد من مشاهدتها. وقد تميزت بومبي بقدرتها على صناعة واستخدام اللون الأحمر الأرجواني. كانت لها مكانة في مجال الفنون والمسرح، وما زال المسرح القديم شاهداً على هذا، وهو الآخر نجا من الدمار الذي لحق بالمدينة وحوّلها إلى تلة بركانية ما زال التنقيب مستمراً في كثير من أجزائها.

وفي الوقت الذي كانت بومبي تعيش رخاء ونهضة فنية وإزدهاراً اقتصادياً، كانت الدعوة المسيحية وصلت إلى روما وبدأت تنتشر. ولا يلاحظ المرء وجود ملامح مسيحية على لوحات الجدران التي حُفظت في متحف نابولي، بل أن ملامح الوثنية واضحة بقوة في جميع الصور بما فيها تجسيد قوة الحيوان بخاصة الأفاعي والأسود وكذلك رسوم للشخصية الأسطورية التي نصفها بشر ونصفها ثور. وفن الفسيسفاء الذي عملت به معظم اللوحات يكشف دقة ومهارة عاليتين عند هذا الشعب.

كذلك أثبتت الدراسات الحديثة عند فحص أسنان الجثث التي وجدت في نابولي أن إنسان بومبي عاش حياة صحية معتمداً على الخضار ومستبعداً السكر.

وتعتبر قصة بومبي، التي يزورها أكثر من مليوني شخص في السنة، مدهشة وغريبة إذ كيف ينقرض شعب بأكمله من آثار إنفجار بركاني ضخم ترك بقايا الناس مجمدة ومردومة وقتاً طويلاً من الزمن.

+ -
.