هنا لا سلطة تعلو على سلطة الماء، فهو الحاكم المطلق الذي بسط سيطرته على مدينة بأكملها، وجعلها تعوم وتتناثر في شمال البحر الأدرياتيكي. إنه الماء الذي جعل من فينيسيا أو البندقية كما يناديها العرب، عاصمة للحب والرومانسية. شوارعها معبدة بالماء، بيوتها مطلية بالألوان البهية، ووسائل النقل فيها هي القوارب الكلاسيكية المعروفة بـ «الجندول». هذه هي فينيسيا التي أحب أن أناديها باسمها الأجنبي، لأن اسمها العربي – البندقية – بعيد كل البعد من مدينة ساحرة تبرز جميع مفاتنها على بساط مائي تتعالى منه المباني التاريخية والقصور والجسور، التي تشكّل جواً بديعاً لمدينة مشحونة بالرومانسية والفن والجمال.
اليوم الأول
على جسر «ريالتو» Rialto، أحد أكثر الجسور شهرة في فينيسيا وأحد الجسور الأربعة الممتدة على القناة الكبرى، وقفت وتأملت هذا الجسر بشكله القوسي الذي لا يزال يرخي ظلاله على القناة منذ عام 1591. يشعر السائح هنا، كأنه في استوديو مفتوح للتصوير. فمئات الكاميرات والهواتف المحمولة تتسارع لالتقاط الصور التذكارية في آن واحد. وهذا الشيء ينطبق أيضاً على قوارب «الجندول» التي لا تهدأ في نقل السياح ذهاباً وإياباً على سطح المياه. فما أن تقترب من «ريالتو» حتى تتعالى الأصوات، وتنطلق صيحات الفرح، وتصوب الكاميرات نحو الجسر العتيق لتصويره.
و «ريالتو»، تحفة فنية وإنجاز معماري وهندسي رائع من الماضي الجميل. فمنذ عصر النهضة، عرفت فينيسيا بعاصمة أوروبا الفنية، وظلّت تحمل ذلك اللقب حتى نهاية القرن السادس عشر. فيها يتوه السائح في عالم القصور والأعمال الفنية والساحات العريقة، وأشهرها ساحة القديس مرقس Piazza San Marco التي تطل في جانبها الجنوبي الشرقي على بحيرة ساحرة هي جزء من البحر الأدرياتيكي. أما في جانبها الشرقي، فيربض قصر دوجي Doge’s Palace الذي كان مكان إقامة دوق فينيسيا ومقراً للسلطة السياسية في المدينة. دخلته لأهيم في عالم الفن الراقي من خلال غرفه وصالاته المملوءة باللوحات الفنية المرسومة بحرفية عالية. هنا حكم الدوق ومجلسه لأكثر من ألف سنة. هذا ما قاله لي المرشد السياحي وأنا أستكشف برفقته هذا المعلم التاريخي الذي تعرّض للحريق مرات عدة، لكن الإصلاحات التي طاولته حافظت على طرازه القوطي المزخرف بالتماثيل والنقوشات المهيبة.
وأنا أهمّ بمغادرة القصر الذي تحوّل عام 1923 إلى متحف، أخبرني المرشد السياحي أيضاً أنه خلال القرن الثاني عشر، كان القصر يضم في طابقه السفلي مجموعة من الزنزانات تُعرف باسم «بيومبي»، وبسبب الحاجة الى المزيد من الزنزانات، أضيف العديد منها خلال القرن الثالث عشر في الطابق السفلي من الجناح الجنوبي. وكانت تلك الزنزانات تتزايد مع مرور السنين، لتعرف في ما بعد باسم «الآبار» بسبب ظروفها الصحية السيئة، إذ كانت مظلمة، رطبة، ومعزولة كلياً عن العالم الخارجي. فيها سجن الكاتب والشاعر الإيطالي سيلفيو بيليكو، والكاتب الإيطالي جاكومو كازانوفا الذي اشتهر بعلاقاته المتعددة مع النساء.
ومن قصص القصور والسجون والمال والسلطة، انتقلت لزيارة كاتدرائية القديس مرقس Saint Mark’s Basilica المتصلة بالقصر. تتضارب الأقاويل حول تاريخ بنائها، فمنهم من يقول أنها شيدت عام 828 لاستقبال رفاة القديس مرقس البشير أو مرقس الإنجيلي، بعدما نقله تجار إيطاليون بمعاونة تجار يونانيين من مدينة الإسكندرية المصرية إلى الأراضي الإيطالية في ذلك العام. إلا أن الكنيسة القبطية أعادت الرفاة إلى مصر عام 1968، في عهد البابا كيرلس السادس. لكن مهما تضاربت التواريخ، فإن الكاتدرائية ستبهركم اليوم بما تختزنه من قبب وقناطر وزخارف مغزولة بالذهب ورسومات تضجّ بالألوان تحكي عن آيات مهمة من الكتاب المقدس.
اليوم الثاني
بزغ فجر يوم جديد وتسلّلت شمس الصباح إلى غرفتي في فندق «قصر غريتي» The Gritti Palace، المشرف على القناة الكبرى والمشيّد عام 1475، لإقامة الدوق «أندريا غريتي». لم يقتصر القصر على إقامة أسرة «غريتي» فقط، لأنه استخدم خلال إحدى الفترات كمقر إقامة سفراء الفاتيكان لدى فينيسيا. ومع إطلالة القرن التاسع عشر، تحوّل هذا الصرح التاريخي إلى فندق من فئة الخمس نجوم، ليستقبل خلال سنواته الطوال ألمع الشخصيات المعروفة من أصقاع الأرض كافة. في رحابه، سيشعر أي زائر بأنه في أحد قصور فينيسيا العريقة التي لا تزال تحافظ على وهج ماضيها الذي لا يندثر. استكشفت أرجاءه كافة وتعرفت على ما يختزنه من حكايات وأسرار، حتى انتهت بي الجولة في منتجعه الصحي «أكوا دي بارما بلو ميديتيرانيو سبا» Acqua di Parma Blue Mediterraneo Spa، وهناك أعطيت نفسي فسحة للراحة والاسترخاء. فكل ما في المنتجع هو إيطالي بامتياز. بدءاً من مستحضرات «أكوا دي بارما» الإيطالية للعناية بالبشرة، إلى موظفي الاستقبال والأشخاص الذين يديرونه. ساعتان تقريباً كانتا كافيتين لتدليل النفس والجسد والانطلاق بعد ذلك في عباب «ملكة البحر الأدرياتيكي».
أينما جال النظر كانت تأسرني تلك الإطلالات النادرة لمدينة تحاصرها المياه، لتغدو مصدراً للوحي والإلهام والشاعرية. وعلمت أن الشاعر والناقد الفني والمفكر الاجتماعي الإنكليزي «جون راسكن»، عشق فينيسيا وتعمّق في أشكال مبانيها الهندسية المتنوعة، لذلك كتب أثناء إقامته في فندق «قصر غريتي» كتابه الشهير «حجارة البندقية» The Stones of Venice الذي يحكي بالتفصيل عن تلك المباني التي توزعت بين الطراز البيزنطي والقوطي وعصر النهضة. كما سلّط الكتاب الضوء على تاريخ المدينة ونشأتها.
ولا يعقل زيارة فينيسيا من دون إلقاء نظرة ولو خاطفة على أحد أبرز جسورها. إنه جسر التنهدات «بونتي دي سوسبيري» Ponte dei Sospiri الذي يربط قصر البندقية بسجن سابق لمحاكم التفتيش فوق نهر «ريو دي بلازو». يستريح الماضي على هذا الجسر المشيد حوالى عام 1600. فكم من سجين عبر هذا الجسر العتيق وتنهّد حسرة على مصيره المجهول أثناء سوقه الى المحاكمة، أو لربما وهو في طريقه إلى تنفيذ حكم الإعدام بحقه. لذلك، يحمل اسمه الحالي.
في هذه المدينة الفريدة التي لا تشبه سواها، يتوه السائح في الكم الهائل من الجمال الذي يزنر المكان، حتى ينقضي النهار بسرعة البرق. ومع هبوط الليل، تبدو أزقة المدينة فارغة كلياً من السياح. فالجميع يكون في الداخل لتذوّق أذكى الوجبات الإيطالية وأطيبها. أما أنا، فأنهيت نهاري في مطعم «كلوب ديل دودج» Club del Doge في الفندق، حيث تذوقت طبق «ريزوتو هامنغواي» المحضر مع القريدس. فكم تطيب الجلسات والاستمتاع بسكون الليل وأنتم تتناولون طعام العشاء من على شرفة المطعم التي تلاطفها مياه القناة الكبرى ليل نهار.
اليوم الثالث
فينيسيا مدينة مبنية على 118 جزيرة رملية متناثرة شمال البحر الأدرياتيكي، ويربطها ببعضها البعض أكثر من 400 جسر، أما القوارب التقليدية التي تنشط في قنواتها فيصل عددها إلى 170 قارباً، وهذا ما يجعل التنقل فيها متعة لا تنسى. ترجع نشأتها إلى القرن الخامس ميلادي حين غزا البرابرة إيطاليا، فهرب بعض السكان إلى تلك الجزر لحماية أنفسهم. وبمرور الزمن، امتلأت الجزر بالمباني لتصبح اليوم مدينة مميزة وفريدة. في رحابها ستشاهدون السكان وهم يصطادون السمك من نوافذ بيوتهم المتواضعة، سواء لتحضير وجبة اليوم أو لبيعها في السوق المحلية لتأمين لقمة عيشهم.
وسط تلك المشاهد اليومية، كنت مع غيري من السياح نبحر القناة الكبرى قاصدين قصر «غريماني» Palazzo Grimani الذي يقف شامخاً على حافة تلك القناة منذ القرن السادس عشر. فيه عاشت أسرة «غريماني» الأرستقراطية لغاية عام 1806، إلا أنه تحوّل اليوم الى مقر لمحكمة الاستئناف في المدينة. غير بعيد من القصر، ستجدون إحدى أعرق دور الأوبرا في العالم وأجملها. إنها «لا تياترو دي فينيته» Teatro La Fenice التي استقبلت أشهر الموسيقيين الإيطاليين، أمثال روسيني وبلليني ودونيزيتي وفيردي الذي اشتهر بعمله الأوبرالي الشهير «عايدة» عام 1871، بطلب من الخديوي إسماعيل، خامس حكام مصر من الأسرة العلوية، لمناسبة افتتاح قناة السويس.
لا يمكن حصر جميع معالم فينيسيا السياحية في عطلة واحدة، وبخاصة عند محاولة اكتشاف جمال جزرها السابحة بكل سلام على صفحة مياه الأدرياتيكي. لكن مهما كانت الرحلة قصيرة، فتذكروا جزيرة «مورانو» Murano، مهد الزجاج الملون. فالرومان وُجدوا في مورانو القريبة من فينيسيا لأنها كانت ميناءً مهماً للصيد وإنتاج الملح، وبحلول عام 1291 انتقلت جميع مصانع الزجاج في فينيسيا إلى مورانو لحمايتها من الحرائق التي قد تنتج أثناء تحضير عجينة الزجاج. وبذلك تحولت الجزيرة إلى حصن منيع لإنتاج تلك السلعة الثمينة. ويقال أنه خلال تلك الفترة، كان يمنع أي شخص من مزاولة مهنة نفخ الزجاج أو تعلّمها إذا لم يكن مواطناً مورانياً. وفي حال ألقي القبض على صانع زجاج هارب بغية ممارسة مهنته في مكان آخر، كان يتوجب عليه دفع غرامة مالية باهظة، ويحكم عليه بتمضية خمس سنوات في تجذيف السفن بأقدام مقيدة بالأغلال. لكن الوضع تغير عما كان عليه سابقاً، ففتحت مورانو أبوابها لدعوة الزوار إلى مشاهدة مراحل صناعة تلك القطع الملونة التي زينت العديد من الكنائس ومنازل كثر من الأثرياء حول العالم.
في طريق العودة إلى وسط فينيسيا، كنت أتأمل تلك الجزر التي تعاني من الشيخوخة. فكم من مرة تمرد البحر عليها ورفع منسوب مياهه ليغمر الأجزاء السفلية من قصورها القديمة، ومنازلها المزينة بالزهور الملونة. ويقول أحد التقارير الصادرة من وزارة البئية الإيطالية، أنه من المتوقع أن يرتفع منسوب البحر الأدرياتيكي في شكل دائم، وأن تستمر فينيسيا بالغرق بوتيرة أسرع نتيجة الضغط السياحي وتصدّع الأساسات القديمة. لكن، هل سيأتي ذلك اليوم وتختفي المدينة عن الوجود أم أنها ستناجي البحر ليرأف بها ويتركها قبلة للسياح والعشاق؟
لماذا تحذفون إسم المحرر الذي كتب مقال فينيسا الجميل وتكتفون بذكر المصدر فقط. ألا يحق أن يذكر إسمه على موقعكم الكريم؟
معك حق، ونعتذر لإغفال الاسم.
الكاتب هو جان بيار حبيب