هل يمكن أن نتحكم يوما في طريقة تفكيرنا؟

بدأنا في الوقت الحالي في تفكيك شفرة الدماغ، وهو ما يتيح لنا الفرصة لإيجاد إجابات عن أسئلة غريبة الطابع من قبيل “ما هي سرعة ورود الخاطرة أو عملية التفكير؟”

عندما طُلب من الباحث في مجال علوم الإدراك، ستيفن بينكر، على سبيل المزاح، أن يشرح في بضع كلمات كيفية عمل الدماغ، أجاب قائلا: “تطلق خلايا الدماغ إشارات كهربائية في شكل أنماط.” كان ذلك جهدا طيبا منه، لكنه في واقع الأمر قد استبدل لغزا بآخر.

على أي حال، من المعروف منذ أمد طويل أن خلايا الدماغ تتواصل عبر إطلاق إشارات كهربائية لبعضها البعض.

وفي الوقت الحاضر، صار لدينا تقنيات لا حصر لها من شأنها تسجيل أنماط النشاط الكهربائي لهذه الخلايا؛ بدءا من الأقطاب الكهربائية التي تُثبت على الرأس، إلى أجهزة المسح التي تعمل باستخدام تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي، والتي يمكن من خلالها رصد حدوث أي تغيرات في مستوى الأوكسجين في الدم.

ولكن حتى مع امتلاك القدرة على جمع البيانات حول نشاط هذه الخلايا، لا تزال أنماط ذلك النشاط تشكل لغزا مستمرا. إذ تبدو وكأنها ترقص على إيقاع نعجز عن سماعه، وتتحرك بفعل قوانين لا ندري عنها شيئا.

من جهتهم، يتحدث علماء الأعصاب عما يصفونه بـ”الشفرة العصبية”، وقد حققوا قدرا من التقدم في فك هذه الشفرة. فقد بات بوسعهم التعرف على بعض القواعد الأساسية في هذا الشأن؛ من قبيل التوقيت الذي يُرجح أن تومض فيه الخلايا الموجودة في مناطق بعينها من الدماغ، وتطلق إشاراتها الكهربائية الخاصة تبعا للمهمة المنوط بتلك الخلايا تنفيذها.

وعلى الرغم من أن وتيرة التقدم في هذا المضمار تتسم بالبطء؛ شهد العقد الماضي سعي فرق بحثية في أنحاء مختلفة من العالم لإنجاز مشروع أكثر طموحا إلى حد بعيد.

وتدرك هذه الفرق البحثية أنه ربما لا نتمكن من أن نضع قط كتابا يضم تفسيرا لكافة الرموز التي تتألف منها هذه الشفرة، ولكن من شأن السعي نحو وضع كل منّا مفرداته ومدخلاته في هذا المضمار أن نتمكن من البدء في التحقق من السبل التي يمكن من خلالها لأنماط النشاط الكهربائي المختلفة أن تتوافق مع أفعال وأنشطة معينة.

وكان الباحثان آلبرت لي وماثيو ويلسون، اللذان يعملان في معهد ماساشوستس للتقنية، أول من ساعد في وضع المباديء الخاصة بهذا الأمر عام 2002. وتقدمت أبحاث الرجلين على النحو التالي؛ أولا، سجلت المؤشرات الكهربائية الصادرة من خلايا دماغ أحد الجرذان وهو يعدو في متاهة، فالجرذان من الكائنات التي تمت لنا بصلة وثيقة في شجرة الحياة الكبيرة.

وبما أن دراسة كامل الدماغ ربما يكون أمرا طموحا أكثر مما ينبغي، فقد كان بوسعنا تركيز عمليات التسجيل التي نقوم بها على المنطقة المعروفة باسم “الحصين” أو “قرن آمون”، وهي تلك البقعة التي تُعرف بأهميتها فيما يتعلق بالقيام بالوظائف المتصلة بالتجوال والتذكر.

وإذا ما كنت عزيزي القاريء قد سمعت عن هذه المنطقة من قبل، فإن ذلك يعود غالبا إلى هذه النتيجة الشهيرة التي تُظهر أن سائقي سيارات الأجرة في لندن قد نمت لديهم منطقة “الحصين” تلك في الدماغ بشكل كبير، وذلك كلما زادت الفترات التي يقضونها وهم يجوبون الشوارع مترامية الأطراف في العاصمة البريطانية.

وبينما كان الجرذ يعدو في المتاهة، كنا نقوم بتحديد المكان الذي يمر فيه ونرصد في الوقت نفسه الكيفية التي تومض بها الخلايا في منطقة الحصين. ومن ثم يتم وضع الأنماط التي ترسل بها الخلايا إشاراتها الكهربائية في صيغة خوارزمية رياضية، لتحديد أي من هذه الأنماط يناسب أكثر كل جزء من أجزاء المتاهة.

وبالرغم من أن لغة هذه الخلايا معقدة للغاية بالفعل، فإن إتمام الخطوات السابقة يعني أنه صار لدينا الآن “حجر رشيد” الخاص بتفسير مثل هذه اللغة، والذي يجعل بمقدورنا تفكيك رموزها.

بعد ذلك، تختبر تلك الصيغ الخوارزمية من خلال تغذيتها بأنماط نشاط كهربائي مُسجلة حديثا، لكي نرى ما إذا كان الجرذ سيتوقع على نحو سليم المكان الذي كان فيه خلال اللحظة التي سُجل فيها كل نمط من هذه الأنماط.

ولا تمكننا هذه التقنية من تفكيك الشفرة العصبية بشكل كامل، لعدم إدراكنا بعد لكافة القواعد المتعلقة بهذا الأمر، كما لا تساعدنا على فهم الأنماط التي تصدر من أجزاء أخرى من الدماغ غير ذاك الجزء الذي تم تسجيل الأنشطة الجارية فيه، وأيضا لا تفيد في فهم الأنماط غير المرتبطة بعملية العدو داخل المتاهة.

ولكنها تظل رغم كل ذلك تقنية فعالة؛ فعلى سبيل المثال، نجح الفريق البحثي بفضل تلك التقنية في كشف النقاب عن التتابع الدقيق للإشارات الكهربائية التي تتكرر في دماغ الجرذ حينما يخلد للنوم بعد الانتهاء من العدو بداخل المتاهة. وبإجراء مقارنة جوهرية في هذا الصدد، تبين أن هذا التتابع لم يكن موجودا خلال فترة نوم الجرذ قبل عدوه في تلك المتاهة.

وكان من المذهل الكشف عن أن هذا التتابع تكرر بوتيرة أسرع خلال النوم منه أثناء اليقظة، بواقع 20 مرة تقريبا. ويعني ذلك أن بوسع الجرذ أن يعدو، من خلال ما يعرف بـ “المخ الغافي”، عبر المتاهة في قدر ضئيل للغاية من الوقت الذي يستغرقه للقيام بالأمر نفسه خلال اليقظة.

وربما يكون ذلك مرتبطا بالوظيفة التي يقوم بها النوم في تقوية الذاكرة، وذلك عبر إعادة عرض الذكريات التي مرت بالكائن الحي من قبل، وهو ما قد يكون قد ساعد الجرذ على تدعيم قدرته على التعلم.

وقد تعطينا الحقيقة المتعلقة بتسارع إعادة عرض هذه الذكريات لمحة خاطفة حول الأنشطة العقلية التي تكمن وراء الرؤى والأفكار المفاجئة التي تخطر للمرء، أو الخبرات التي نرى فيها حياتنا “تومض لحظاتها أمام أعيننا”. فعندما لا يوجد ما يكبح أفكارنا، يمكنها حقا أن تمضي على المسارات المعتادة لدينا ولكن بـ”إيقاع متسارع إلى الأمام”.

وقد كشفت الدراسات التي أجريت لاحقا عن أن “أنماط (نشاط الدماغ خلال) المتاهة” يمكن أن تمضي إلى الخلف كما تمضي إلى الأمام سواء بسواء، وهو ما يشير إلى إمكانية أن يكون بوسع الجرذان تصور هدف تنشده مثل نهاية المتاهة، وأن تتصور مسار عودتها منه إلى النقطة التي تقبع فيها بالفعل.

ومن بين الاستخدامات التطبيقية لتقنيات مثل هذه، وهي عبارة عن أجزاء متساوية من منظومات القياس المتخصصة المتقدمة للغاية والصيغ الرياضية المعقدة بشدة، ما يعرف بفك شفرة النشاط العقلي لدى المرضى الذين يمرون بالحالة الخضرية، أو الحالة الإنباتية؛ وهي عبارة عن حالة من اضطراب الوعي يمر بها من يصابون بأضرار خطيرة في الدماغ.

وعلى الرغم من أن هؤلاء المرضي يكونون عاجزين عن تحريك أي من عضلات أجسادهم، فإن عقولهم ربما تظل واعية، بل ويكونون قادرين على سماع أصوات الأشخاص الذين يتحدثون إليهم من داخل الغرفة ذاتها. ومن أجل استخدام التقنيات التي تحدثنا عنها سلفا، يبدأ الأطباء بالطلب من المرضى تخيل أنشطة من المعروف أنها تُنشّط مناطق بعينها في الدماغ مثل منطقة الحصين.

يلي ذلك فك شفرة البيانات التي تم تسجيلها للنشاط العقلي المتعلق بهذا الأمر، حتى يتسنى للأطباء أن يميزوا العلاقة ما بين كل نشاط من الأنشطة التي قام بها الدماغ والأفكار التي راودت المريض، لكي يعلموا أي من هذه الأنشطة يرتبط بهذه الفكرة بعينها. بعد ذلك، ومن خلال إجراء تصوير كهربائي لاحق للدماغ، يمكن أن يتخيل المريض من جديد ذات الأنشطة، بهدف الإجابة عن بعض الأسئلة الأساسية.

فعلى سبيل المثال، يمكن أن يُطلب من المريض في هذه الحالة أن يتخيل أنه يمارس لعبة التنس، وأن يتخيل قيامه بالتجوال حول منزله، وأن يقترن ذلك بتقديمه إجابة بـ “نعم” أو “لا”، وذلك لإقامة اتصال سيكون الأول من نوعه بينه وبين الأطباء، منذ أن لحقت به الجروح التي أدت لإصابته بتلك الحالة المرضية التي يعاني منها.

لكن ذلك ليس التطبيق الوحيد، فثمة تطبيقات أخرى، سواء في مجالات علمية نظرية مثل تلك التي تستهدف معرفة آليات عمل عقولنا من الداخل، أو على صعيد عملي مثل ما يُعرف بواجهة الدماغ الحاسوبية أو حاسوب العقل الوسيط.

وهذه التقنية عبارة عن جهاز يستخدم لإيصال دماغ المريض بجهاز حاسوب من أجل تمكينه من إعطاء أوامر لتحريك بعض الأشياء، وهي الأوامر التي يتم تنفيذها عبر ذلك الجهاز.

وإذا ما حدث في المستقبل مثلا أن أراد شخص يعاني من الشلل تحريك ذراع إنسان آلي أو حتى تحريك شخص آخر من خلال واجهة الدماغ الحاسوبية تلك، فإن ذلك سيعتمد على ذات التقنيات الخاصة بفك شفرة المعلومات والبيانات المتعلقة بالنشاط الكهربائي للدماغ وترجمتها في صورة أفعال وحركات.

وفي نهاية المطاف، بعد أن أثبتت المباديء التي تقوم عليها مثل هذه التقنيات جدواها الآن، تبدو إمكانياتها والفرص الكامنة فيها مذهلة.

+ -
.