هل يمكن للمستقبل أن يغير الماضي؟

قد يصعب قبول مثل هذا السؤال: هل يمكن للمستقبل أن يغير الماضي؟ فليس من المعقول أن الأحداث في المستقبل هي التي تتسبب في تغيير الأحداث التي حدثت وانتهت مسبقا، فهل يمكن أن ترى المستقبل وبناء عليه تقوم باتخاذ قرارك الآن؟

أفلام الخيال العلمي التي تتناول هذه الفكرة كثيرة، وربما من أشهرها فيلم “التالي” “Next” للنجم السينمائي “نيكولاس كيج”. إذ لدى بطل الفيلم القدرة على النظر إلى المستقبل بجميع احتمالاته، وبعد النظر فيها كلها يقوم باتخاذ القرار الذي يؤدي إلى أفضل نتيجة.

قد تتصور أن مثل هذا الأمر إنما هو مستحيل، فكيف يمكن لأحد رؤية المستقبل لتعديل الحاضر؟ بل أكثر من ذلك، بعدما تنتهي اللحظة الراهنة لتصبح في عداد الماضي، كيف يمكن لشخص تغييرها بعد أن انطوت؟ أليس المسبب يسبق السبب؟ العلماء اكتشفوا أن تغيير الماضي في المستقبل هو أمر جائز وحاصل، وتلك هي إحدى الخواص الأساسية في جسيمات العالم الذري، والتي لم يجد لها العلماء تفسيرا معقولا.

أوراق الشجر

لو قارنا أوراق الشجر والتي تنتج الطاقة من خلال التمثيل الضوئي مع الخلايا الضوئية والتي تعتمد هي أيضا على الضوء لإنتاج الطاقة الكهربائية لوجدنا فرقا كبيرا في مستوى الكفاءة بينهما. فأوراق الشجر تحول 95% من الضوء الممتص إلى طاقة كيميائية (لاحظ أننا هنا نتكلم عن الضوء بعد امتصاصه، وليس الضوء الذي يسقط على الورقة)، والتحول هذا يتم في مليون مليار جزء من الثانية، ولا تسمح الأوراق لفقدان الكثير من هذا الضوء على شكل حرارة، بينما الخلايا الضوئية لم تصل كفاءتها إلى أكثر من 45% في أفضل الأحوال.

ما السبب في هذا الفرق الشاسع؟ الفرق في كفاءة أوراق الشجر يعتمد على سرعة وصول الضوء إلى النقطة التي يتم فيها التفاعل الكيميائي، أجرى العلماء تجربة على البكتيريا البنفسجية والتي تقوم بالتمثيل الضوئي كالنباتات، فقاموا بإطلاق فوتونات (جسيمات الضوء) كل على حدة إلى داخل الخلية، وبعد تحرك الفوتون بحثا عن النقطة النهائية سلك عدة مسارات بنفس الوقت حتى وصل، وفي خلال رحلته اكتشف المسار الأقصر، فاتخذه، لاحظ أنني استخدمت كلمة “فاتخذه” لأعبر عن قرار اتخذه الضوء في الماضي بعد أن مضى، وذلك بناء على معلومات توفرت له في المستقبل. لا توجد لغة مناسبة لوصف مثل هذه العملية سوى تلك التي تحير العقول.

حتى تكون هذه الصورة أكثر وضوحا تخيل أنك انطلقت في الصباح الباكر في سيارتك متوجها إلى العمل، وكانت هناك عشرة طرق مؤدية له، أي منهم ستختار؟ اختيارك يحدد ما إذا كنت ستصل في الوقت المناسب أم أنك ستتأخر، فقد تكون بعض الشوارع خالية من السيارات، وفي المقابل ستكون معظمها مزدحمة. إن كنت محظوظا في اختيارك للشوارع غير المزدحمة ستصل مبكرا وسيشيد بك رئيسك في العمل، ولكن إن كنت سيئ الحظ، واخترت الشوارع المكتظة بالسيارات فالويل لك والتوبيخ.

طريقة الضوء

والآن لو اتبعنا طريقة الضوء لعلاج هذه الأزمة فستسلك كل الطرق في نفس الوقت، على الرغم من أنك شخص واحد، ولكن لديك القدرة السحرية للسير في جميع الطرق العشرة دون أن تنقسم إلى عدة أقسام، ستتأخر في معظمها، ولكنك ستصل بسرعة في أحدها، وحينما تصل وتفاجئ رئيسك -الذي كان يتوقع وصولك متأخرا بسبب امتلاء تسعة شوارع بالسيارات مثلا- سيسألك، أي الطرق سلكت؟ ستجيب بالإجابة غير المنطقية بأنك سلكت الطريق الأسرع فقط، وحينما يسألك عن باقي الطرق، ستقول له أنك لم تسلك أيا منها. كيف حصل ذلك؟ قبل أن تصل إلى العمل أنت سلكتها كلها، وبعد وصولك بسرعة أنت سلكت واحدا منها وهو الأسرع، شيء محير بالتأكيد.

الفكرة هذه ليست جديدة بل أتت من رحم ميكانيكا الكم، والتجارب العلمية على مدى أكثر من نصف قرن تدل وبلا أدنى شك على أن الضوء يستخدم معلومات حصل عليها في المستقبل ليغير الماضي. فهناك تجارب شهيرة جدا منها “تجربة الشقين” وتجربة “الخيار المؤجل الماحي الكمي”، تدلان على أن ماضي الضوء يتغير بحسب تأثير المستقبل، بل إن الماضي متداخل مع المستقبل، لا أحد يعلم سببا لهذا التصرف، ولكن العلماء متأكدون من أن المستقبل يغير الماضي. وأن السبب يسبق المسبب في عالم ميكانيكا الكم.

هل يعني ذلك أن الماضي أو التاريخ يتغير تبعا لما يحدث اليوم؟ هل هذه المقالة التي قرأتها ووصلْتَ إلى نهايتها الآن كانت عن علم الاجتماع، وبعد أن وصلت إلى هذه النقطة تغيرت هي وتغيرت ذاكرتك عنها لتصبح عن الفيزياء؟ ربما لا، وخصوصا أن مثل هذه التأثيرات إنما تعيش في العالم الصغير -عالم ميكانيكا الكم- كلما كبرت كتل الأجسام وتراكبت الذرات مع بعضها كلما كان مؤشر سهم الوقت يشير إلى الأمام بقوة أكبر، وكلما كان تأثير المستقبل على الماضي أكثر اضمحلالا. فاطمئن، هذه المقالة بدأت بالحديث عن الزمن، وانتهت بالحديث عنه، وكل ما تتذكره عنها هو كما هو، لم يتغير فيها ولا بذاكرتك شيء. هل من الممكن أن تكون قد تغيرت؟ لا أظن.

+ -
.