وجهةُ نظرٍ في العاداتِ والتقاليدِ

تشكِّلُ العاداتُ والتقاليدُ أدبيَّاتِ كُلِّ مُجتمعٍ حيٍّ سويٍّ، فهيَ السمطُ الوهميُّ الذي يجمعُ بينَ أفرادِ المجتمعِ الواحدِ في المناسباتِ المختلفةِ، وكُلُّ مُجتمعٍ يتحلَّى ويتغنَّى بعاداتِهِ وتقاليدِهِ، لأنَّها سرُّ وحدتِهِ وقوَّتِهِ.

الأفراحُ والأتراحُ منْ عاداتِنا وتقاليدِنا الموروثةِ التي نفخرُ ونعتزُّ بها في كُلِّ زمانٍ ومَكانٍ، لكنَّها بحاجةٍ ماسَّةٍ لإعادةِ النظرِ فيما يشوبُها منْ قديمٍ باتَ لا يتلاءمُ معَ العصرِ، ومنْ حديثٍ طارئٍ يتناقضُ معَ مَفهومِها وغايتِها، فباتَ يُشكِّلُ عبئًا على الجميعِ.

 

الأتراحُ: إنَّ الحياةَ الدنيا مَحفوفةٌ بالمخاطرِ الطبيعيَّةِ والبشريَّةِ التي تقصمُ الظهرَ، وتنغصُ العيشَ، وتقضُ المضاجعَ، كالأعاصيرِ والبراكينِ والزلازلِ والحروبِ وحوادثِ السيرِ التي كثيرًا ما تنتهي بالموتِ الزؤامِ!

والموتُ هوَ توأمُ الحياةِ، ووجهُها المفجعُ والمؤلمُ! فهوَ لا يستثني أحدًا صغيرًا كانَ أو كبيرًا غنيا كانَ أو فقيرًا، فكلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموتَ عاجلاً أم آجلاً!

 

فالمرءُ رهنُ مَصائبَ لا تنقضي

حتَّى يُوارَى جسمُهُ في رمسِهِ

فمُؤجَّلٌ يَلقَى الردَى في أهلِهِ

ومُعجل يَلقَى الردَى في نفسِهِ

إنَّ الإنسانَ ومَهما أُوتيَ منْ قوَّةِ تَحمُّلٍ، يَبقَى عاجزًا بمفردِهِ عنْ مُواجهةِ نوائبِ الدهرِ وتبعاتِها، لذلكَ يَنبري المجتمعُ السويُّ بقضِّهِ وقضيضهِ للتلاحمِ والتعاطفِ معَ ذوي المصابِ بالتعزيةِ والحثِّ على الصبرِ والسلوانِ، وذلكَ ليستطيعوا تَجاوزَ ما حلَّ بهم بالتي هيَ أحسنُ.

منْ هُنا كانَتِ المشاركةُ بالأتراحِ واجبةً دينيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ! لأنَّ الإنسانَ كانَ وما زالَ وسيبقى أخَا الإنسانِ وسندَهُ في السرَّاءِ والضرَّاءِ.

 

الأفراحُ: الأفراحُ مُتعدِّدةُ الأسبابِ والأشكالِ، والأمثلةُ كثيرةٌ ولا مَجالَ لذكرِها في هذا السياقِ، لكنَّني سأتناولُ وجهًا منْ أوجهِ الفرحِ باتَ ظاهرةً مُتكرِّرةً مُقلقةً! بلْ باتَتِ الشغلَ الشاغلَ للمجتمعِ! إنَّها (الزفافُ أو التأهيلُ).

في الجاهليَّةِ كانَ العريسُ مَحسوبًا على القبيلةَ لأنَّهُ ابنُها البارُ وفارسُها وحامي حماها! فهوَ منْها وإليها، فلا يَعصي لها أمرًا، ولا يُفشي لها سرًّا! لذلكَ كانَتِ القبيلةُ تختارُ لهُ شريكةَ حياتِهِ المناسبةَ لها حَسَبًا ونَسَبًا! وتتعاطفُ معَهُ وتدعمُهُ بالمالِ والعيالِ! أمَّا المدعوُّونَ منْ كُلِّ حدبٍ وصوبٍ فكانَتْ وظيفتُهُم إضفاءُ الشرعيَّةِ على العائلةِ الجديدةِ ليسَ إلاَّ! وفي أيّامِنا هذِهِ باتَتْ مُوافقةُ العروسينِ وشاهدانِ اثنانِ يَكفي لتتمَّ العمليَّةُ بنجاحٍ وبشكلٍ قانونيٍّ وشرعيٍّ! فلا داعيَ إذًا للمغالاةِ في توزيعِ بطاقاتِ الدعوةِ يُمنةً ويُسرةً بذريعةِ إشهارِ العمليَّةِ على الملأِ. عمليَّةٌ باتَتْ تُشكِّلُ عبئًا مادِّيًّا وزمنيًّا، ودينًا ثقيلاً على الجميعِ!

والأنكى منَ المغالاةِ بالدعوةِ هوَ: ما يأتي في الدعوةِ نفسِها منْ سطورٍ، وما بينَ السطورِ، واللبيبُ بالإشارةِ يفهمُ! فهلْ منَ الحكمةِ المروءةِ أنْ ندعوَ أهلَنا وأصحابَنا وأحبابَنا، ونستضيفَهُم على قارعةِ الطريقِ وعلى حسابهم أيضًا؟!

البذخُ والتبذيرُ في الأعراسِ والذي باتَ حديثَ الساعةِ سببُهُ: رسومُ الدخوليَّةِ ( النقوطُ)!

فما إنْ يُحدِّدُ العريسُ مَوعدَ عرسهِ حتَّي يبدأَ يُمنِّي نفسَهُ بأحلامٍ ورديَّةٍ على حساباتٍ مادِّيَّةٍ خاطئةٍ! فيُطلقُ العنانَ لعواطفهِ الجيَّاشةِ دونَ استدراكٍ أو رقيبٍ أو حسيبٍ! فما إنْ ينتهي اليومُ الموعودُ، وتنقضي ليلةُ العمرِ حتَّى يستيقظَ على أحلامٍ وهميَّةٍ! فيخاطبَ نفسَهُ كما خاطبَتْ أُمُّ كلثومُ نفسَها قائلةً:

 

يا فؤادي لا تسلْ أينَ الهوى

كانَ صرحًا منْ خيالٍ فهوى

فيدركُ عندَئذٍ أنَّ ما تأتي بهِ الرياحُ تأخذُهُ الزوابعُ! وما يجمعُهُ العريسُ منْ مساعداتٍ في ليلةِ فرحهِ لا يَكادُ يسدُّ رمقَ الكثيرِ منَ المستفيدينَ والمستغلِّينَ والمتربِّصينَ بهِ! الذينَ يسرقونَ فرحةَ عمرِهِ! فيستيقظُ على مُطالباتٍ ومُضايقاتٍ تُنغِّصُ عيشَهُ، وتَقضُّ مضجعَهُ! ومثلُهُ كالذي يستيقظُ على آلامٍ مُبرحةٍ بعدَ عمليَّةٍ جراحيَّةٍ! فيقعدُ يندبُ حظَّهُ مَديونًا مَلومًا مَحسورًا.

المشاركةُ المادِّيَّةُ(الادِّخارُ أو التسليفُ بمفهومِ البعضِ) تُشكِّلُ عبئًا ثقيلاً على المدعو، وكثيرًا ما تُسبِّبُ لهُ حرجًا كبيرًا ومريرًا! فالواجبُ واجبٌ لكنَّهُ مَقرونٌ بالدخوليةِ (النقوطُ) وهيَ غيرُ مُتيسِّرةٍ، فيحجمُ عنْ مُشاركةِ أقربِ المقرَّبينَ مجبورًا مُقهورًا مُقصرًا! وتحضرُني في هذا السياقِ قصةٌ قصيرةٌ مُعبِّرةٌ كشاهدٍ على ما تقدَّمَ . قيلَ: مرضَ أحدُ المحسنينَ مِرضةَ الموتِ! فاستبطأَ أهلَهُ وأصحابَهُ في عيادتِهِ، فشكا أمرَهُ لجارِهِ قائلاً: هلْ لي إساءةٌ جازيتُها لهمْ إلاَّ الحبَّ والخيرَ والإحسانَ والإنصافَ؟ فكيفَ يتخلَّونَ عنِّي وأنا في أمسِّ الحاجةِ لمواساتِهِم لي؟ فقالَ الجارُ: أتدري سببَ تأخُّرِهِم عنْ عيادتِكَ؟ قالَ: لا. قال: إنَّهُم يتعاطفونَ معَكَ ويتألمَّونَ لألمكَ، ويعترفونَ بحبِّكَ لهُم، وبأفضالِكَ عليْهِم، ويعرفونَ مدى حاجتِكَ لهُم! لكنَّ العينَ بصيرةٌ واليدَ قصيرةٌ! فهم يخجلونُ منْ عيادتِكَ وأيديهم فارغةٌ! فما إنْ سمعَ ذلكَ حتَّى انتفضَ قائلاً: أخزى اللهُ المالَ الذي يحولُ بيني وبينَ أهلي وخلاَّني! ثمَّ طلبَ منَ المنادي أنْ يُنادي: مَنْ كانَ لي في ذمَّتِهِ مالٌ فهوَ في حلٍّ منْهُ ليومِ الدينِ! قيلَ: فما إنْ سمعَ الناسُ ذلكَ حتَّى كُسِرَتْ عتبةُ دارِهِ لكثرةِ العوَّادِ. هذهِ القصَّةُ تعكسُ تداعياتِ المشاركةِ المادِّيَّةِ على المدعوِّينَ! أمَّا تداعياتُها على الداعينَ فلا يُمكنُ اعتبارُها مُساعدةً لهم، بلْ دينًا ثقيلاً مُضاعفًا، لأنَّها انحرفَتْ عنْ مَفهومِها وغايتِها الساميةِ! والأمثلةُ على ذلكَ كثيرةٌ.

التشريفُ دونَ تكليفٍ في الأفراحِ إسوةً بالزيارةِ، هوَ الحلُّ الاستراتيجيُّ الأمثلُ لأفراحنا، والتي هيَ في تزايدٍ مُستمرٍّ! فالمشاركةَ الوجدانيَّةَ مُريحةٌ للداعينَ والمدعوِّينَ على حدٍّ سواءٌ! وهيَ خيرٌ وأبقى! فلا حرجَ على أحدٍ، ولا عبْءَ على أحدٍ، ولا دينَ على أحدٍ! لكنَّ هذهِ الوصفةَ لا يُمكنُ لأيٍّ كانَ أنْ يتبنَّاها بمفردِهِ، فهيَ تحتاجُ إلى مراجعةٍ دقيقةٍ ومسؤولةٍ لسلبيَّاتِها وإيجابيَّاتِها منْ قبلِ شبابِنا الواعي، وخلوتِنا العامرةِ، وهيئتِها الدينيَّةِ الموقَّرةِ! فيُعادُ تنظيمُها وهيكلتُها على أسسٍ مادِّيَّةٍ وزمنية، اجتماعيَّةٍ ودينيَّةٍ، تعودُ بالفائدةِ والأريحيَّةِ على الجميعِ! نأملُ ذلكَ، فإذا صدقَتِ النوايا صلُحَتِ الأعمالُ! واللهُ وليُّ التوفيقِ.

+ -
.