
في يوم الجمعة الفضيل، يطيب الدعاء والبوح الصادق، لعل الخالق عز وجل يستجيب لدعائنا وبوحنا، ويزيل عنا الهموم والغمَّ والأسى الذي يطبق على صدورنا.
وإذا كان البوح ضرورياً ويسهم في كشف الحقائق التي تهدّئ النفوس وتنير العقول والضمائر وتعيد لنا الأمل بالخلاص، فلا بأس أن نبوح بما نخفيه في قلوبنا.
وفي هذه اللحظة المصيرية من حياة الوطن، رأيت أنه من الواجب والضروري أن أبوح بما في داخلي، وأطلعكم على الأسباب الحقيقية للتغيّر الجذري والانعطافة التاريخية في موقفنا كطائفة من السلطة الحالية في دمشق، وعلى ارتباك علاقتنا التاريخية بهذا الوطن الغالي على قلوبنا جميعاً، ورفضنا المطلق التعامل مع هذه السلطة بأي شكل من الأشكال على وضعها الحالي.
لقد تعرّضنا، منذ مجيء هذه السلطة إلى الحكم، لمذبحة معنوية قاسية قبل المذبحة المادية الدموية الأخيرة.
وقد حصل ذلك على مدار الأشهر الأربعة الماضية، إذ اتهمتنا هذه السلطة وأبواقها بالخيانة، واستعدت الشعب السوري علينا، وشجعت عناصرها على الهجوم على مدينة جرمانا وأشرفية صحنايا والقرى الدرزية على مشارف السويداء ظلماً وجوراً، فتم قتل مائة وستين من أهلنا، وتعرض طلاب الجامعات من أبناء الطائفة للهجوم من قبل زملائهم، ما اضطرهم للهرب إلى السويداء. وخرجت عشرات المظاهرات في بعض المدن السورية تنادي بمعاقبتنا وطردنا من مدنهم، وبدأت خطب الجمعة في بعض المساجد تكفّرنا وتخوّننا، وقد شكر رئيس هذه السلطة هؤلاء جميعاً على ما سماه “غيرتهم الدينية”.
كل ذلك جرى بسبب موقف سياسي جريء وقوي وحقيقي من سماحة الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة، الذي رفض الاعتراف بهم، واتهمهم بالإرهاب، ولم يقبل بأي صيغة يكون لهم فيها يد في أمن المحافظة قبل أن تتشكل أجهزة أمن حقيقية وجيش وطني.
وحين سنحت لي الفرصة، عند دعوتي ولقائي بهم في قصر الشعب، بحضور وزير الخارجية ووزير الداخلية وثلاثة من مستشاري الرئيس، شرحت لهم بالتفصيل سبب هذا الموقف وخلفياته، وطالبتهم، بعد شرحي المستفيض، أن يمنحوا السويداء فرصة عام كامل يكون فيه أبناؤها مسؤولين عن أمنهم، وذلك لبناء الثقة من جديد.
وسأبوح لكم اليوم بما قلته لهم عن أسباب موقف الشيخ الهجري، ومن الضروري أن تعرفوا الحقيقة وتوقفوا مظلمتكم الكبيرة التي تمارسونها بحقنا.
قلت لهم، بعد أن سألني السيد أسعد الشيباني، وزير الخارجية: “ما رأيك بالوضع في السويداء؟”
أجبته: إن محافظة السويداء تعرضت، أيام النظام البائد، لعمليات إجرامية من خطف وقتل وتعديات كبيرة على قرى المحافظة، بين أعوام 2014 و2018، وذلك بواسطة “جبهة النصرة” التي نشطت في سهل حوران حينها. وأخبرته أنني شاركت بنفسي، مع بعض الشخصيات من رجال الأعمال، في محاولة منع وقوع جريمتين على الأقل، لكننا فشلنا، حيث تم تصفية ثلاثة عشر مواطناً من أبناء محافظة السويداء بعد اختطافهم من قبل “جبهة النصرة”، وكان على رأسهم الوجيه الفاضل جمال عز الدين، وحتى هذه اللحظة لا نعرف أين دُفنت جثثهم.
ثم قلت لهم: لقد قامت “جبهة النصرة” بخطف ضابطين منشقين عن جيش النظام البائد، من خيرة ضباط جبل العرب، وحكم عليهم القاضي الشرعي للجبهة بالإعدام، وباءت جميع محاولاتنا لإنقاذهما بالفشل. وذكّرتهم بالجريمة الكبرى التي ارتكبتها “داعش” عام 2018، حين غدرت بنا وهاجمت قرى الجبل، فقتلت وذبحت خلال ساعات معدودة 256 من شيوخ ونساء وأطفال قرى الدروز.
هذه هي الحقائق التي عرضتها عليهم بالتفصيل، وأعرضها عليكم اليوم، وهي الأسباب التي دفعت سماحة الشيخ حكمت الهجري إلى هذا الموقف السياسي الحازم.
وعليه، فإن هذا الموقف السياسي للشيخ حكمت الهجري خلّف حقداً كبيراً لدى غالبية إخوتنا من أبناء الطائفة السنية، الذين لا يعرفون أسباب هذا الموقف ولا معاناتنا الكبيرة، ولا تاريخ علاقتنا مع “جبهة النصرة” التي أصبحت لاحقاً “هيئة تحرير الشام”، وهي نفسها التي تحكم سوريا الآن بالقيادات والعناصر نفسها، وبفكرها السلفي الخطير.
وأحدث ما قامت به بحقنا كان في الرابع عشر من الشهر الفائت، بحجة وجوب تحقيق “هيبة الدولة”، إذ نفّذت جريمة كبرى بواسطة عناصر وزارة الداخلية والجيش، الذين دخلوا إلى بيوت المواطنين مباشرة في القرى ومدينة السويداء، ولم يحاربوا الفصائل المنفلتة كما زعموا، فقتلوا وذبحوا حوالي ألفي مواطن مدني بريء، غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن ومشايخ الدين، ونفذوا مذبحة طائفية لم نتعرض لمثلها في تاريخنا الطويل، ثم قاموا بحصار المحافظة حتى هذا اليوم.
لقد قصمت هذه المذبحة، وهذا الحصار، ظهورنا، ودمرت أحلامنا، وغيّرت مفاهيمنا حول الوطن السوري إلى الأبد، وأصابتنا بجرح غائر يصعب التئامه. وأنتم، أيها الإخوة السوريون، ما زلتم حتى اليوم تنعتوننا بالخيانة، وتوافقون على حصارنا وإذلالنا، وترفضون الوقوف إلى جانبنا، بصمتكم أو بعتبكم علينا، أو بمطالبتكم لنا بأن ننسى ما حدث ونفتح صفحة جديدة، أو نسمح للجنة التي شكلوها بمحاسبتهم، وكأن شيئاً لم يحصل.
أترك الأمر لتقديركم، ولما يجب أن نفعله لإنقاذ الوطن، غير ما تطرحونه علينا حتى هذا اليوم، لأننا لن نسمح أن نتعرض لمذبحة أخرى تحت أي ظرف من الظروف. وإن أهلنا الدروز في إسرائيل الآن هم أملنا الوحيد في حمايتنا من هؤلاء المجرمين الذين ما زالوا يصرّون على دخول المحافظة واحتلال القرى التي نهبوها وأحرقوها، ويرسلون المواد الغذائية والطبية بالقطارة لأهلنا وأطفالنا.