الكاتب: نبيه عويدات
ذاع صيته في مناطق واسعة من بلاد الشام.. اعتبر رمزاً من رموز الرجولة والـ «قبضنة».. اتخذه الرجال سلاحاً وزينة للتباهي.. كتبت عنه الأشعار الشعبية وتغنت به الصبايا لأكثر من مائتي عام.. قبل أن ينساه أهله ويصبح قطعة أثرية في بعض المتاحف العالمية.. إنه «الخنجر المجدلاني» الذي سطع اسمه لأكثر من ثلاثة قرون…
يرتبط اسم مجدل شمس حالياً بالتفاح والكرز، اللذان يعتبران رمزاً لهذه البلدة ومرادفاً لاسمها في العقود الأربعة الأخيرة. لكن اسم مجدل شمس ارتبط سابقاً، ولأكثر من ثلاثة قرون، بـ «الخنجر المجدلاني»، الذي سمي بالمجدلاني نسبة إلى مجدل شمس حيث كان يصنع. عائلات عديدة اعتاشت من هذه الحرفة وتناقلتها من جيل إلى جيل – الآباء علموا الأبناء، والأبناء علموا الأحفاد صنعة أكسبت صاحبها احتراماً ودخلاً جيداً.
مع السنين أصبح الطلب يقل على هذه الصناعة، ولم تعد تدر على صاحبها أرباحاً كافية، بالإضافة إلى بروز وسائل معيشة أكثر تطوراً وأكثر ربحاً، فبدأت صناعة الخناجر في مجدل شمس بالاضمحلال شيئاً فشيئاً، إلى أن اختفت نهائياً في العقد الماضي، فلم يعد أحد يمارسها، وأصبح عدد الأشخاص الذين يعرفون أسرارها أفراداً يعدون على أصابع اليد الواحدة..
ما دفعني إلى البحث في هذا الموضوع هو أن والدي المرحوم على منصور عويدات ترك لي خنجرين صنعهما بنفسه، أزين بهما أحد جدران صالون بيتي. فقد أتقن والدي هذه الصناعة، مع أنه لم يكن يمارسها أو يعتاش منها، بل تعلمها كهواية من خاله المرحوم سليم الحلبي، الذي كان أحد أبرز الصنـّاع المهرة «للخنجر المجدلاني»، ولا يزال أحد الخناجر التي صنعها موجودا في المتحف الحربي بدمشق. وكنت دائماً أشعر بالأسف لاختفاء هذه الحرفة الجميلة التي امتازت بها هذه البلدة، والتي كان من الواجب الحفاظ عليها، لأنها إرث شعبي وتاريخي مهم جداً.
وقد فاجأني عند بحثي عن الموضوع مدى الجهل بالموضوع من قبل أبناء البلدة بشكل خاص، وأبناء القرى المجاورة بشكل عام، والذين هم بالأصل سكان هذه البلدة قبل أن ينفصلوا عنها، وأقصد بقعاثا ومسعدة. وفي المقابل كان هناك عدد من المواطنين الذين يعرفون تماماً المعنى التاريخي والقيمة المعنوية لهذه الحرفة، وقد احتفظوا بنماذج جميلة جداً من «الخنجر المجدلاني»، وحفظوها كما تحفظ الجواهر الثمينة، حتى أن بعضهم لم يسمح لي بإخراجها خارج بيته حرصاً عليها وخوفاً من ضياعها، بل سمح لي فقط أن أشاهدها وأصورها لغرض هذا التقرير.
وللمفارقة، أنني وجدت أشخاصاً من خارج الجولان مهووسين، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، «الخنجر المجدلاني»، ويعرفون عنه أدق التفاصيل، ويمكنهم بكل سهولة تمييز ما إذا كان الخنجر الذي بين يديهم «خنجرا مجدلانيا» أو لا. وقد التقيت بشخص من هؤلاء جمع أكثر من ثلاثين «خنجراً مجدلانياً». وقد طلب مني هذا الشخص عدم ذكر اسمه، لأنه يعتبر أن ما بين يديه هو ثروة حقيقية لا يريد أن «يفتح العين عليها»…
حرفة على وشك الانقراض
لم يعد هناك من يمارس هذه الحرفة في مجدل شمس اليوم، وعدد الأشخاص الذين يعرفون أسرارها يعدون على أصابع اليد الواحدة، وهم جميعهم شيوخ أعمارهم تجاوزت السبعين عاماً.
الشيخ أبو مجيد أحمد علي القضماني الشيخ أبو مجيد أحمد علي القضماني أحد آخر هؤلاء الحرفيين الذين ملكوا أسرارها ومارسوها، التقيناه في بيته في مجدل شمس واستمعنا منه لحديث شيّق حول «الخنجر المجدلاني»: تعلمت المهنة من والدي علي القضماني، الذي تعلمها بدوره من جدي وعلمها لي ولعمومتي – يعني أن المهنة انتقلت في العائلة لثلاثة أجيال متعاقبة. وقد مارست المهنة بعد أن توفي والدي وبشكل مستقل لمدة خمس سنوات، لكن وضعي الصحي أجبرني على ترك هذه المهنة في سن مبكرة. كان «الخنجر المجدلاني» مطلوباً جداً. قبل الاحتلال عام 1967 كنا نبيع إنتاجنا من الخناجر في دمشق، في سوق الحميدية، حيث كان مطلوباً من قبل المحلات التي يرتادها السياح، كذلك كنا نبيعها في لبنان، وخاصة في منطقة بعلبك، حيث كان يأتي إلينا التجار اللبنانيون بطلبيات من 20 و30 خنجر للمرة الواحدة، ثم يأتون بعد شهر أو شهر ونصف لأخذها. بعد الاحتلال أصبحنا نبيع الخناجر في عكا وحيفا وبيت لحم وفي تل أبيب أيضاً، وكان زبائننا من أصحاب المحلات التي تبيع التحف للسياح. ويضيف الشيخ أبو مجيد: أشعر بغصة وحزن لأن هذه الحرفة الشعبية التي تشكل جزءا من تاريخنا على وشك الانقراض. بقي هناك عدد قليل جداً من الأشخاص الذين يعرفون أسرار هذه المهنة، ومع ذهابهم تندثر صناعة «الخنجر المجدلاني» إلى الأبد، وهذا محزن جداً.. أتمنى أن يكون هناك من يرغب في تعلم هذه المهنة، فأنا على استعداد لتعليمه كل أسرارها من أجل أن تبقى للأجيال القادمة.
كيف يصنع «الخنجر المجلاني»؟
يصف لنا الشيخ أبو مجيد طريقة صنع «الخنجر المجدلاني» فيقول:المواد الأولية اللازمة لتصنيع «الخنجر المجدلاني»، أو كما اعتدنا نحن أصحاب الكار تسميتها “الخسكار”، هي الفولاذ ذو الجودة العالية، وقرون الغنم والماعز والجاموس، والنحاس والمعادن الملونة والصدف. كنا نشتري هذه المواد من الشام قبل الاحتلال. بعد الاحتلال أصبحنا نشتريها من حيفا، لكن الصدف والمعادن استبدلت بالبلاستيك الملوّن.
أجزاء الخنجر المجدلاني
الأدوات اللازمة لممارسة حرفة صناعة الخناجر هي في معظمها تلك التي يستخدمها الحداد، وهي موقد، كور، مطارق، مبارد، منشار، جلخ ومحفار حاد. الخنجر مكون من نصل وقبضة وقراب (غمد). النصل من الفولاذ والقبضة من قرون الحيوانات – ترصع بالنحاس والصدف.
في البداية يجهز النصل من الفولاذ الممتاز. يحمّى على النار ويطرق حتى يصبح جاهزاً. يتم الحفر عليه بمحفار حاد فترسم بعض النقوش وتكتب جملة “شغل مجدل”، والعام الذي صنع فيه، بالإضافة إلى بعض الجمل التي تتناسب مع الظرف التاريخي. فمثلاً في الأربعينات والخمسينات كنا نحفر على النصل جملة “تحيا العرب”، وفي أوقات سابقة جملة “وما النصر إلا من الله”، ويمكن أن نرى جملاً أخرى…
بعد أن ننتهي من النصل ننتقل إلى القبضة. القبضة تحتاج إلى حرفية وذوق فني. يتم تسخين قرن الماعز أو الغنم أو الجاموس على النار حتى يتحول إلى مادة لينة يمكن التحكم بشكلها. بعد ذلك يتم كبسها حتى تبرد ويتم تقطيعها على شكل حلقات، ثم يتم تركيبها على النصل واختيارها بطريقة معينة. وعند التأكد من ملاءمتها يتم فكها ومعالجتها بالمبرد لتحسين شكلها. كذلك يتم الحفر عليها بواسطة المنشار بطريقة فنية، نقوم بعدها بحشوها بالنحاس والصدف، مستخدمين لذلك المطرقة، فتتحول هذه الحلقات عند إعادة تركيبها على النصل إلى تحفة فنية جميلة جداً، وهي عبارة عن قبضة الخنجر. القبضة مكونة من أربعة أجزاء وهي: شـَمْسة سفلى، جسم القبضة، الجوزة، شـَمْسة عليا.
بعد ذلك يصنع قراب الخنجر (الغمد) من الخشب المغلف بالنحاس، ويتم الرسم على النحاس بطريقة فنية جميلة أيضاً. يحتاج الخنجر العادي إلى يوم عمل كامل، أما الخنجر المميز فقد يحتاج إلى يومين أو ثلاثة أيام، ويكون عندها فعلاً تحفة فنية رائعة.
«الخنجر المجدلاني» لم يكن سلاحاً فقط!
يقول الشيخ ابو مجيد: بالرغم من استخدام «الخنجر المجدلاني» كسلاح حقيقي، إلا أن الرجال كانوا يحملونه على خصرهم كزينة ورمز للرجولة. ولا بد أن معظمنا شاهد مسلسل باب الحارة، فبعض “القبضايات” في المسلسل كانوا يحملون على خصرهم «خنجراً مجدلانياً»، ويحملونه بنفس الطريقة التقليدية التي كان يفعلها الرجال في مطلع القرن الماضي. كان «الخنجر المجدلاني» يعتبر زينة للشب وللرجل، وتغنت به الفتيات والنساء، وقد كتبت عنه العديد من الأشعار الشعبية والأغاني والأهازيج التي كانت تغنى في مناسبات عديدة، لكن للأسف الشديد لا أذكر أيا منها. أذكر مقطعاً من بيت شعر شعبي، يتغزل به رجل بمحبوبته فيقول: “غمزة عينك خنجر مجدلاني”، دلالة على قوة تأثيرها، فيشبهها بحدة «الخنجر المجدلاني».. للأسف لا أذكر البيت كاملاً.
«الخنجر المجدلاني» ذائع الصيت حتى أنه كان يقال «السيف الدمشقي» و«الخنجر المجدلاني» وهذا دلالة على مكانته الرفيعة وقيمته في ذلك الوقت، وهو موجود في عدة متاحف في الوطن العربي والعالم. أنا شخصياً رأيته في “المتحف الوطني” بدمشق، في “متحف الحرف الشعبية” في دمشق، في “المتحف الإسلامي” في القدس، وسمعت من أشخاص رأوه في عدة متاحف في أوروبا.
——————————
بعد إعلاننا السابق عن هذا التقرير، اتصل بنا عدد من المواطنين الذين يملكون نماذج من «الخنجر المجدلاني»، نورد أدناه صوراً لها: أقدم خنجر رأيناه خلال بحثنا يملكه السيد أيمن فارس الصفدي تم صنعه في العام 1926:
_______________________________________________
نموذج من شغل علي منصور عويدات صنع في العام 1947:
نموذج آخر من شغل علي منصور عويدات صنع في العام 1947:
________________________________________
من شعل سلمان محمد محمود ويملكه السيد كامل رباح صنع في الثمانينات:
___________________________________________
خنجر يملكه السيد حسن شقير:
_______________________________________
خنجر يملكه السيد فادي رضا صنع في العام 1958:
_______________________________________________
خنجر غير معروف المصدر يملكه جامع خناجر مجدلانية من خارج الجولان