يتساءل البعض عن الضجة التي تثيرها أسابيع الموضة العالمية، ولا يفهمون ذلك الاهتمام، الأقرب إلى الهوس، بها، مع أن الجواب بسيط يتلخص في أنها صناعة تدر المليارات على اقتصادات العواصم العالمية التي تقام فيها.
لهذا ليس غريبا أن تحاول كل عاصمة، من ساو باولو إلى طوكيو وشانغهاي، مرورا ببرلين ولاغوس ولاهور وإسلام آباد وكييف ومينسك.. وهلم جرا، أن تخلق لها أسبوعا يحمل اسمها؛ فالتقديرات تشير إلى أن هناك نحو 52 أسبوع موضة في العالم حاليا. وكأن هذا لا يكفي، فإن لبعض الدول أكثر من أسبوع، بسبب تنافس مدنها، مثل ساو باولو وريو دي جانيرو في البرازيل، ومدريد وبرشلونة في إسبانيا، وميلبورن وسيدني في أستراليا، وشانغهاي وبكين في الصين، ونيويورك ولوس انجلوس في الولايات المتحدة. أما الأكثر طرافة، فهي موسكو التي تنظم أسبوعين في المدينة نفسها، حتى إذا لم ينجح الأول ينجح الثاني.
غني عن القول إن العديد منها لا يرقى إلى المستوى، أو يحقق الكثير، إلا أن هناك رغبة محمومة تدفع كل من يملك ماكينة خياطة لأن يشارك فيه على أمل أن يقتطع له قطعة من الكعكة، بينما تطمح المؤسسات الكبيرة والحكومات لأن تحقق من ورائه بعض الربح.. فهو إن لم يبع الأزياء، فقد يبيع صورة براقة للبلد تجذب الزوار وتحرك السياحة.
في لندن مثلا فتحت «10 داونينغ ستريت»، الأبواب على مصاريعها لاستضافة صناع الموضة في كل موسم، فيما أصبح شبه تقليد يقوم به كل رئيس وزراء. فقد أثبت صناع الموضة أنهم قوة محركة لقطاع يقدر بـ26 مليار جنيه إسترليني ويوظف أكثر من 800.000 شخص في بريطانيا، مما يجعله أهم من قطاع صناعة السيارات. وإذا أخذنا بعين الاعتبار تأثيراته على باقي الصناعات المرتبطة به مثل الفنادق والمطاعم، وإنفاق العاملين فيه من أجورهم.. وغيرها، فإنه يقدر بأكثر من 74.7 مليار دولار. وهذا وحده مبرر وجيه للاحتفاء به والتعامل معه بجدية، لا سيما أن الأرقام تشير إلى أنه قطاع ينمو بسرعة، وربما يكون الوحيد الذي يشهد نموا رغم الأزمة العالمية.
في لقاء خاص مع «الشرق الأوسط» قالت كارولاين راشن، رئيسة منظمة «أسبوع لندن للموضة» إنها تشعر بالفخر بتطور «الأسبوع»: «أنا فخورة بما حققناه إلى حد الآن: (فالأسبوع) يزداد قوة موسما بعد موسم، الأمر الذي ينعكس على قيمته الفنية والاقتصادية في الوقت ذاته.. فالموضة كما نعرف جيدا صناعة تعول أكثر من 797.000 موظف وتحقق 42.2 مليار دولار، مما يجعلها أكبر قطاع توظيف في مجال الإبداع ببريطانيا. الأولوية الآنية هي زيادة نسبة البيع للزوار من الأسواق النامية، وأيضا إنعاش حركة البيع بتفعيل التكنولوجيا، وتحديدا مواقع الإنترنت». وتتابع: «ثم لا بد من الإشارة إلى أن (الأسبوع) يساعد على جذب المزيد من المستثمرين وتلميع الصورة العالمية للندن، خصوصا أنه منبر لمصممين متميزين ومشهود لهم بالابتكار، برهنوا على أن لهم القدرة على جذب أكثر من 5000 زائر من 48 دولة لمتابعة عروضهم».
بدوره، يقول عمدة لندن، بوريس جونسون، إن «هذه الأرقام تعكس أهمية الموضة.. فهي صناعة ديناميكية تنمو بسرعة بفضل إبداع مصممي لندن، ومعاهد الموضة المهمة التي تفخر بها العاصمة وتفرخ في كل عام مواهب جديدة تساهم في عمليات الإنتاج، التي تشمل قطاع المنتجات المترفة والمحلات الشعبية في الوقت ذاته». وأضاف: «سأستمر في التعاون مع منظمة الموضة البريطانية لضمان أن تبقى لندن في الواجهة عاصمة عالمية مهمة».
«أسبوع ميلانو» في المقابل، ورغم أن عمره 35 عاما فقط، بدأت تظهر عليه علامات الترهل، لافتقاده عنصر الشباب، فمعظم كباره تعدوا الخمسين، إن لم نقل السبعين، مثل جيورجيو أرماني، وروبرتو كافالي، وكارل لاغرفيلد الذي يعمل في دار «فندي» منذ أكثر من 49 عاما.. وغيرهم. لم تنتبه ميلانو لحاجتها الماسة إلى دماء شابة إلا بعدما بدأت لندن تسحب السجاد من تحت أرجلها، مما جعلها تطلق بعض المبادرات للبحث عن مصممين شباب وتحضيرهم لتسلم المشعل من الكبار. لكن المشكلة لا تكمن في هذا وحده، بقدر ما تكمن أيضا في عدم دعم مؤسسات كبيرة لصناعة الموضة، وإدراكهم متأخرين أهميتها بوصفها قطاعا مهما يشغل آلاف الأسر التي توارثت ورشات صغيرة ومعامل جلدية أبا عن جد. دار «غوتشي» وحدها تدر على إيطاليا نحو 3 مليارات يورو في السنة، كذلك دار «برادا» وغيرهما، ومع ذلك يؤكد المراقبون أن تعامل الحكومة مع المصممين تنقصه بعض المرونة بدليل قوانين الضرائب الصارمة، وقضية «دولتشي آند غابانا»، التي هددتهما بدخول السجن في العام الماضي، بسبب اتهامات بتهربهما من الضرائب، وهو أمر يشكو منه باقي المصممين أيضا.
وربما يكون «أسبوع نيويورك»، الذي انطلق عام 1943، عندما لم يعد بإمكان تجار أميركا السفر إلى باريس بسبب الحرب العالمية الثانية، الأكثر نجاحا من الناحية التجارية والتسويقية؛ إذ يشهد 92 عرضا، مقارنة بـ«ميلانو» (66)، ولندن (58). منافسه الأقوى هو «باريس» بـ98 عرضا. تاريخه وقوة بعض مصمميه، الإعلانية تحديدا، تجعله أسبوعا لا بد منه لوسائل الإعلام والمشترين العالميين فضلا عن عشاق الموضة، الذين يصل عددهم إلى أكثر من 232.000 زائر.. وهذا ما يدر على نيويورك ما يقرب من 466 مليون دولار أميركي خلال الأسبوع، ويساهم في 1.6 مليار دولار سنويا من الإيرادات الضريبية للمدينة. وبجرد بسيط للعملية، يتبين أن أكثر من 40 مليون دولار تذهب إلى المطاعم، و30 مليون دولار لسائقي التاكسيات وإيجار السيارات الخاصة وباقي وسائل النقل، و56 مليون دولار من نصيب الفنادق.
وحسب الأرقام التي نشرها مكتب السياحة، فإن الأسبوع يحقق أرباحا تفوق أي صناعة أخرى في المدينة، أكثر من بطولة نيويورك المفتوحة لكرة المضرب، أو كرة القدم، بل وحتى الحفلات الغنائية. منظمة التطوير الاقتصادي لمدينة نيويورك نشرت دراسة أخيرا تفيد بأن ما جنته المدينة من الأسبوع هذا العام، يزيد على 850 مليون دولار أميركي في السنة، أي ضعف ما جنته من الـ«سوبر بول». فالكل يلمس زيادة في المبيعات، بدءا من الباعة المتنقلين، إلى أفخم المطاعم، ومن أصغر الفنادق إلى أكبرها.
من جهته، ظل أسبوع باريس متألقا منذ انطلاقته الرسمية في عام 1973، لا تؤثر عليه التذبذبات الاقتصادية ولا التغيرات الاجتماعية، بفضل اهتمام الفرنسيين به. فالموضة بالنسبة لهم من المؤسسات الثقافية المقدسة. هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهي دائما تستعين بدماء جديدة بغض النظر عن جنسياتهم لضخها بالشباب، ونظرة سريعة إلى أهم البيوت مثل «ديور» و«لوي فويتون» و«جيفنشي» و«سيلين».. وغيرها، تبين أن من يتولاها مصممون من جنسيات غير فرنسية، والفضل هنا يعود إلى المجموعات التجارية، مثل «إلفي آم آش» و«كيرينج» اللتين تشكلان قوة لا مثيل لها، تستطيع أن تدفع مبالغ هائلة لأي مصمم ترى فيه بصيصا من الموهبة. هذه المجموعات تحقق، إلى جانب دار «هيرميس»، التي لا تزال نسبة كبيرة منها ملكا عائليا، أرباحا تقدر بـ50.7 مليار دولار في السنة. أما «شانيل»، التي لا تعلن عن أرباحها، فالتقديرات تشير إلى أن أرباحها هي الأخرى تتعدى المليارات.
هذه ببساطة هي قوة صناعة الموضة، التي تتكلم لغة المال والجمال في الوقت ذاته، بحيث لا يكتمل جانب من دون الآخر. أمر انتبه له الاتحاد الأوروبي أيضا ويحاول استغلاله، خصوصا أن أوروبا تضم أكثر من 850.000 شركة متخصصة في الموضة، وتوظف أكثر من 5 ملايين شخص، فضلا عن أنها تشكل 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي. أما جانب المنتجات المترفة وحده فيشكل 10 في المائة من صادرات الاتحاد، ويوفر ما لا يقل عن مليون وظيفة. كل هذه العوامل تجعل الاتحاد يعمل على إنماء هذه الصناعة حتى تساهم بـ20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2020. ورغم أن منافسة أسواق مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والبرازيل شرسة، فإن أوروبا تدخل المنافسة من باب النوعية والجودة.