لدراسة واقع المواد الكيميائية التي نتعرض لها يوميا على الخصوبة، قامت السلطات الاتحادية الأميركية أخيرا على مدى أربع سنوات في تعقب ومراقبة 501 من الأزواج الذين يحاولون إنجاب أطفال. وكان أحد الاكتشافات البارزة في هذه الدراسة أنه في الوقت الذي تعرض خلاله الرجال والنساء إلى مواد كيميائية سامة معروفة، ظهر أن الرجال يبدون أكثر عرضة من النساء في معاناتهم من مشكلات تتعلق بالخصوبة.
تدهور خصوبة الرجال وهذه الفجوة بين الجنسين كانت واسعة، خاصة لدى التعرض إلى مواد تسمى «الفثالات» phthalates، تلك المركبات الموجودة في كل مكان التي تجعل البلاستيك أكثر مرونة، والمستحضرات والغسولات أكثر نعومة. والنساء اللواتي يستخدمن أكثر من غيرهن مستحضرات الزينة غالبا ما يحملن مستويات أعلى من «الفثالات» على أجسامهن، التي تقاس عن طريق تحليل البول. لكن الذي ظهر أن مستويات «الفثالات» كان لها علاقة بضعف خصوبة شركائهن من الذكور.
وهكذا «فإن الذكور وحدهم الذين شملتهم الدراسة كانوا يدفعون الثمن»، وفقا إلى جيرماين بك لويس الأخصائية في علم الأوبئة في المعهد الوطني لصحة الأطفال والتطوير البشري، والمشاركة الرئيسة في تقرير نشر في فبراير (شباط) الماضي حول «الخصوبة والعقم». وتنتمي «الفثالات» إلى مجموعة من المركبات الصناعية تعرف بأنها وراء اختلال عمل الغدد الصماء، نظرا إلى تداخلها مع نظام هذه الغدد التي تتحكم بإنتاج وتوزيع الهرمونات في الجسم. وكانت هذه الكيميائيات السبب في مجموعة من المشكلات الصحية، بما فيها العيوب الخلقية، وأمراض السرطان، وداء السكري.
لكن تأثيرها على نظام التناسل البشري هو الذي أثار أكثر من أي شيء آخر، قلق الباحثين. وكانت الجهود المتزايدة خلال العقدين الأخيرين قد أظهرت أن «الفثالات» يمكنها إعادة تشكيل نظام التناسل لدى الذكور، عن طريق التدخل بعمل الهرمونات الذكرية مثل الـ«تيستوستيرون»، الذي يلعب دورا بارزا في تطوير الذكورة. وهذه الآلية كما يعتقد الخبراء تشرح النتائج التي تربط التعرض إلى «الفثالات» بالتغيرات الحاصلة في كل الأمور، ابتداء من تطور الخصيتين إلى نوعية السائل المنوي.
ويقول أندريا غور أستاذ الصيدلة والسموميات في جامعة تكساس في أميركا، ورئيس تحرير مجلة «إندوكرينولوجي» في تقرير جديد له، «لقد اطلعنا على دراسات حول الخلايا، ودراسات حول الحيوانات، وحاليا حول عمل الأوبئة، وكلها ترينا صورة مشابهة».
الذكورة والبيئة والتركيز على الخصوبة الذكرية يرجع إلى أوائل التسعينات، عندما نشر الباحثون في الولايات المتحدة وأوروبا تقريرا يقول إن التعرض إلى الكيميائيات قد يكون له صلة بالتدني المستمر في نوعية السائل المنوي. وكان أحد معدي التقرير نيلز شاكبايك الباحث في شؤون التكاثر والتناسل في جامعة كوبنهاغن قد ذكر منذ ذلك الحين، أن الزيادة الحاصلة في تشوهات النظام التناسلي الذكري الذي يسميه «متلازمة خلل التكون الخصيوي» «testicular dysgenesis syndrome» قد يكون له علاقة بالتعرض البيئي إلى مركبات تعطل عمل الغدد الصماء مثل «الفثالات».
وكانت دراسات قد أجريت أخيرا أيضا في الولايات المتحدة، التي تربط بين التعرض إلى «الفثالات»، والتلف الظاهر الذي يصيب الحيوانات المنوية لدى الرجال. وقد دعمت هذه الاكتشافات مجموعة من الدراسات التي أجريت على الحيوانات، لا سيما الجرذان التي أظهرت أن المركبات يمكن أن تتداخل مع ذكورية صغار هذه الحيوانات، مما يؤدي إلى تغيرات طبيعية غريبة في المسالك التناسلية الذكرية، فهي تتدخل مع كيفية صنع الـ«تيستوستيرون»، كما يشرح هيذر باتيسول أستاذ علم الأحياء في جامعة ولاية نورث كارولينا، الذي يقوم بدراسة تأثيرات المركبات المخلة بعمل الغدد الصماء خلال فترة سن البلوغ.
مركبات ضارة وتمتلك النساء أيضا هرمونات الذكورة لكن بمعدلات أقل، واستنادا إلى بعض النظريات، فإن هذا يعني حصول بعض التأثيرات الواضحة، وإن كانت ضئيلة على خصوبة النساء بسبب «الفثالات».
وثمة بعض عدم اليقين في هذه الصورة، فقد لاحظت مراكز التحكم بالأوبئة والوقاية منها، أنه رغم أن الدراسات تبين أن التعرض إلى «الفثالات» هو على نطاق واسع بين سكان الولايات المتحدة، فإنه من الصعب معرفة ما هي هذه المستويات. فالتأثيرات الصحية هنا بسبب المستويات المنخفضة من هذه المركبات ليست واضحة، أو مفهومة جيدا. إذ ثمة الكثير من أنواع «الفثالات» التي تعقد الصورة، لأن بعضها له تأثيره الأشد من غيره. لذلك ينظر فريق الدكتورة بك لويس إلى مجموعة أوسع من المركبات الصناعية، بما فيها المعادن الثقيلة، كالرصاص والكادميوم التي تتجمع في جسم الإنسان، بينما «الفثالات» على النقيض يجري استقلابها خلال ساعات قليلة. لذا فإن تأثيرها ووقعها على البشر، لن يكون بذلك العمق الكبير، ما لم يكن الأشخاص المعنيون يتعرضون باستمرار لها من مصادر مختلفة، التي تشمل لا البلاستيك ومستحضرات التجميل فحسب، بل أيضا مواد التوضيب، والمنسوجات، والمنظفات وغيرها من المنتجات المنزلية.