فرانز ليست من أسرة عتيقة، لكنها فقيرة. ولد عام 1811، وهي السنة التي ظهر فيها المذنب. ظل ظاهرا للعيان مدة 260 يوما. يبدو أن المذنب، أحضر معه السعد. لأن فرانز ليست أصبح فيما بعد ثريا جدا.
كان والده محبا للموسيقى. فعل ما في وسعه، لكي ينمّي موهبة ابنه المعجزة. لكنه كان موظفا صغيرا لدى عائلة الأمير إيسترهازي. هذا يعني، أنه لم يكن في مقدوره فعل الكثير.
فرانز الصغير، كان رقيقا حالما عطوفا. يشبه الغجر، الذين كان يغني ويلعب ويرقص معهم. في الواقع، كان فرانز يحب حرية الغجر وحياتهم البرية.
كان لا يفارق آلة البيانو. في بدايته، كان عندما لا تسعفه أصابعه الصغيرة في الوصول إلى مفاتيح البيانو في آن واحد، كان يستخدم أنفه في العزف.
عندما سأله أبوه وهو في سن الخامسة، ماذا يفضل أن يكون عندما يكبر؟ أجاب بأنه يريد أن يكون موسيقيا مثل بيتهوفن. في سن الثامنة، كان يعزف أمام الكونت إسترهازي وبعض النبلاء الأخرين.
كانوا مسرورين من الطفل المعجزة، إلى درجة أنهم خصصوا لوالده منحة مالية، تساعده على أخذ ابنه فرانز إلى فيينا. من ثم، انتقلت العائلة إلى هناك.
جاءت سيدة عجوز لتودع العائلة قبل رحيلها، وتنبأت بأن فرانز سوف يعود في يوم من الأيام، في عربة فاخرة تجرها الخيول المطهمة.
حضرت العائلة إلى فيينا، لكي يكمل الطفل فرانز ليست تعليمه. في ذلك الوقت، كان أستاذ الموسيقى تشيرني، في قمة شهرته.
كان تشيرني مسحورا بالصغير فرانز، إلى درجة أنه رفض أخذ أجر نظير تعليمه. ظل فرانز يحمل لهذا الأستاذ الجليل، كل تقدير واحترام طيلة حياته.
لم يمض وقت طويل قبل أن يفاجئ ليست فيينا بموسيقاه. ولم يكف أهل فيينا عن الحديث عن هذا الصبي المعجزة. كان في سن الثانية عشرة، ليس له نظير في العالم كله.
عزف يوما أمام العملاق الموسيقي بيتهوفن، وأبدع في حضرته. وسط التصفيق الحاد في نهاية العزف، جاء بيتهوفن الذي لم يكن قد أعجب بعازف من قبل، حضن الصبي بين ذراعيه وقبله قبلة، لم ينسها فرانز بقية حياته.
بعد ذلك، قام ليست بجولة، زار فيها كبرى المدن الأوروبية، لإقامة حفلات موسيقية كلاسيكية. من هذه المدن، مدينة لندن، حيث الملك جورج الرابع الأبهة، الذي كان معجبا بالشاب المعجزة موزارت.
أراد ليست أن يلتحق بالكونسرفاتوار بباريس. لكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة، عندما رفض شيروبيني طلبه، بحجة أنه أجنبي. تلى ذلك، حزن عميق وهو في سن السادسة عشرة، لوفاة والده.
كان على ليست أن يعول والدته. لذلك، أخذها لكي تعيش معه في باريس. لم يمض وقت طويل، قبل أن يصبح مشهورا في باريس، كما كان معروفا في فيينا.
ربما كانت قُبلة بيتهوفن للصبي ليست، هي أول دافع وإلهام له. ثاني دافع وجده في باريس، عندما استمع إلى بجانيني وهو يعزف على آلة الكمان. كان يتمنى معرفة الكثير عن آلة الكمان وحياة الموهوب بجانيني الرومانسية.
عندما سمع ليست عزف بجانينيقال: “يا له من رجل. ويا لها من آلة. ويا له من فنان. السماوات! المعاناة! الشقاء! العذاب! كلها تقع كامنة في هذه الأوتار الأربعة.”
بجانيني، هرقل، آلة الكمان، وفرانز ليست على آلة البيانو، سحرا كل أوروبا في ذلك الوقت، كل على حدة. أينما كان يحل أيا منهما، يتم استقباله رسميا، ويقابل بحفاوة وترحيب بالغين من الجماهير.
كان بجانيني، يضع بعزفة المستمعين في حالة إملاء وامتثال عجيبتين. كان يصور بموسيقاه بسهولة بالغة، صوت العاصفة وغناء الطير. كان ليست نفسه، يحرص على الاستماع لعزفه، لكي يستمد منه المدد والإلهام.
باجانيني، كونشيرتو الكمان رقم 1، أوركسترا “شلومو مينفز”.
https://www.youtube.com/watch?v=joWi96pvkH8
24 باجانيني، كابريسي وتعني أهواء. عزف نيكولاي مادويان.
ليست، كان شخصية غريبة نوعا ما. يحمل عواطف متضاربة، تتصارع داخله نحو المجد. في أيام الثورة الفرنسية عام 1830، كان يرغب أن يتطوع في الجيش. بعد ذلك، انضم إلى الاشتراكيين. كانت حياته يسيطر عليها التدين.
في أحد خطاباته، كتب لنا ما يلي:
“لعدة أسابيع، يظل عقلي وأصابعي تعمل مثل الأرواح. “هومير”، الإنجيل، “أفلاطون”، “لوك”، “بيرون”، “هوجو”، “لامارتين”، “شاتوبرياند”، “بيتهوفن”، “باخ”،”هومل”، “موزارت”، “ويبير”، كل هؤلاء أجدهم حولي. أقوم بدراستهم، أتأمل أعمالهم، التهمهم بعنف. بجانب ذلك، أقوم بالمران أربع أو خمس ساعات يوميا.”
عندما بلغ ليست سن 27 سنة، شعر بالحنين لأصدقائه الغجر. لذلك، شد الرحال إلى منزله القديم. هناك، استقبل بحفاوة بالغة.
هناك، قام باللعب والغناء والرقص معهم. كان يسهر على ضوء الشعلات حتى وقت مـتأخر من الليل أو حتى السحر. هذه الرحلة أنعشته وجددت من نشاطه.
“رهابسوديس المجرية”، عمل موسيقي من أعمال ليست، وضع فيه ألحان الغجر التي أحيتها زيارته هذه. كان يحلو له تسميتها “الطفل الهائم”.
“رهابسوديس المجرية”، لـ ليست كاملة.
أكثر سنوات ليست نشاطا، هي السنوات التي قضاها في ويمار، يعمل كقائد للأوركسترا في مسرح المدينة. نجح في أن يجعل المدينة، كعبة للمؤلفين الموسيقيين.
كان معجبا بأعمال: جوته، شيللر، ويلاند، وآخرين. وكان يسميهم “الويماريون”، نسبة إلى المدينة ويمار. كانت المدينة معجبة جدا بـ ليست. كان في حياته، محاطا بمجموعة ساحرة من الرجال والنساء.
كانت تربطه صداقة حميمة بالشاعر النمساوي فرانز فون شوبار. وكان على علاقة بالأديب الفرنسي فيكتور هيجو، صاحب رواية “البؤساء”، والشاعر الألماني هينه، والموسيقار ميربير. وأيضا، على علاقة بالموسيقيين، بيرليوز وشومان وشوبان.
كان دائم المساعدة للغير، الأقل حظا منه في مجال الموسيقى. هو أول من اكتشف عبقرية فاجنر، وقام بتشجيعه. قال فاجنر يوما: “صديقي العزيز ليست، جعلني أومن بأعمالي، عندما لم يكن يشعر بي أحد”.
كان ليست يحب عمل حفلات موسيقية في العواصم الأوروبية المختلفة، وخصوصا التي أقامها في روسيا عام 1840. كان يستقبل هناك استقبالا حافلا. في أحد الأمسيات، حصل على ما يعادل عشرة آلاف دولار.
كان يزور إيطاليا باستمرار. لأنه كان يحب الفن الإيطالي والكنائس الإيطالية. البابا بيوس التاسع، كان يكرس وقته لسماعه، ويدعوه بـ “ابني العزيز”. في أحد المرات، أعطاه تمثالا صغيرا للمادونا.
موهبة ليست تقع أيضا في قدرته الفائقة على العزف على آلة البيانو. يداه الرقيقتان، لا تجدان أية صعوبة في عزف أية جملة موسيقية مهما كان تعقيدها. مفاتيح آلة البيانو تأتي طيعة تحت امرته بدون مشقة.
كان يركز فكره على التعبير. كانت له مقدرة هائلة على عزف موسيقى المؤلفين الآخرين، وجعل أعمالهم تنبض بالحياة. قال فاجنر عندما قام ليست بعزف مقطوعة من تأليف فاجنر، أنه يشعر أنه هو الذي يجلس على البيانو ويقوم بالعزف.
قال لعازفة بيانو ذات مرة، عندما تسرعين في العزف، يجب أن تنتظري برهة قبل أن تضغطي على مفاتيح البيانو، حتى تستجمعي كل أفكارك. كان هذا هو أسلوب ليست في العزف.
كمؤلف موسيقي، لم يكن ليست معروفا للكثيرين. أهم أعماله: أوراتوريو “أسطورة القديسة إليزابيث”، موسيقى القداس، سيمفونية “فاوست”، سيمفونية “دانتي”، وأشعاره السيمفونية.
أوراتوريو القديسة إليزابث لـ ليست.
https://www.youtube.com/watch?v=STp3I7UTK3c
سيمفونية “فاوست” لـ ليست.
سيمفونية “دانتي” لـ ليست.
حياة ليست الخاصة، مليئة بالرومانسية والإثارة. لذلك لن نفاجأ بتحوله إلى درويش، والذهاب إلى روما لكي يصبح “الأب ليست”. يقول في ذلك: “لقد بلغت من العمر، ما يجعلني أستعد لنهاية سعيدة”.
قضى ليست وفاجنر سويا أياما مجيدة. بعد وفاة فاجنر، ذهب ليست إلى مدينة بايروث لكي يحي ذكرى فاجنر، الذي كان يصفه بأنه “الموسيقي العبقري الوحيد الحقيقي في عصره”.
في بايروث أيضا، عام 1886، توفي ليست فجأة، ودفن في مقبرة المدينة. لا يبعد كثيرا عن مدفن فاجنر بمدينة وانفريد.
بالرغم من صداقة ليست لكثير من الأرستوقراط، إلا أنه كان محبا للعامة. كان يقول: “أنا أعزف للناس في الصالة، لكي يحصلوا على شئء نظير ما دفعوه من نقود”.
كان معجبا بالمغنية جيني لند. وكان يقول: “ما الفائدة في كل هذا، الأوركسترا والمغنين والتدريبات والتحضير والبرامج، إذا كان الجميع يأتون لسماع لند فقط”.
في إحدى المناسبات، نصحته سيدة أميركية بالذهاب إلى أميركا حتى يكوّن ثروة كبيرة، وهي لا تعرف أنه كان ثريا جدا في ذلك الوقت. أجابها ليست قائلا: “لو كنت يا سيدتي في حاجة لمثل هذه الثروة الكبيرة، فلن أتردد في الذهاب إلى هناك”.
في أحد جولات ليست في سويسرا، دعي إلى حفلة تنكرية في الخلاء، الكل يتنكر في ملابس الفلاحين. كان ليست يعزف على ناي من البوص.
فجأة هبّت عاصفة هوجاء، جعلت الجميع يهرول إلى مبنى الكنيسة. هناك، جلس ليست على الأورغن وبدأ يعزف. سمعه الكاهن، فجرى خارج الدير وهو يصيح مناديا أهل القرية للحضور على عجل، لسماع الملاك جبريل وهو يعزف على الأورغن متخفيا في زي فلاح.
حضر أهل القرية، جثوا على ركبهم، كانت الدموع تنهمر من عيونهم، وهم يستمعون لموسيقى ليست الساحرة. مثل هذه الموسيقى، لم تسمع بها هذه القرية السويسرية من قبل.