في كولومنسكوي بضواحي موسكو يقوم قصر- متحف شيده القيصر الكسي ميخالوفيتش في القرن السابع عشر ليكون مقراً صيفيا له ، جاعلاً منه تحفة الهندسة الخشبية، و”لؤلؤة روسيا الحقيقية”.
يفتح القصر أبوابه للسياح ، للوقوف على جمالية هندسته وما يحويه من كنوز وفنون ونقوش نادرة، تتوزع في صالاته العريقة، وفي ارجاء حدائقه الغناء.
الجولة في أرجاء القصر، تفتح صفحات من تاريخ روسيا، وانفتاحها على الهندسة والعلوم والفنون مع القيصر الكسي الذي أولى اهتماماً كبيراً للهندسة والفنون والحدائق، لا سيما ولعه بهندسة الخشب، الذي ترجمه بهذا القصر الرائع المؤلف من مجموعة من المباني الخشبية التي تحمل واجهاتها زخرفات هندسية فريدة، كما أجنحته العديدة المخصصة للقيصر وزوجته، وأبنائه وبناته، متوّجاً فرادة قصره هذا بالزخرفات الفنية وكنيسة أيقونة سيدة عذراء كازان، اضافة الى حدائقه الست الممتدة على مساحة شاسعة من الأراضي، المزروعة بآلاف الأشجار المثمرة والأزهار والنباتات الطيبة، في منطقة ذات الطبيعة الرائعة بمناخها، وثروتها الخضراء التي أغرت القيصر الكسي تشييد قصره الصيفي فيها، بعدما خلف والده القيصر ميخائيل فيودوروفيتش، مؤسس سلالة رومانوف، ما جعل من القصر الى اليوم، لؤلؤة روسيا الحقيقية التي يقصدها آلاف السياح، والسفراء الأجانب لتأمل فرادة جماليته.
حدائق وكنوز فنية
فالقصر الذي كان يقصده القيصر الكسي شتاء لصيد الظباء، والذئاب، والثعالب والأرانب البرية، وصيفاً للتمتع بطقس المنطقة المنعش واللطيف، تكمن فرادته في أجنحته وغرفه العديدة، والتي يبلغ عددها 270 غرفة، عدا عن احتوائه على 26 غرفة – برج، بارتفاع يراوح بين 20 و30 متراً.
أولى القيصر الكسي هذا القصر اهتماماً كبيراً عند تشييده، حيث شارك آلاف العمال والفنانين في البناء وهندسته الداخلية وزخرفته، على مساحة ممتدة على 7500 متر مربع. وشهد في السنوات الفائتة إعادة تأهيل وترميم بدعم من حاكم موسكو ووزارة الثقافة الروسية، على يد 226 خبيراً بين نحات ورسام أيقونات ونجارين واختصاصيين بالزخرفة والسجاد والتطريز والبرونز.
محاطاً بست حدائق مزروعة بالأشجار والنباتات الطبية الفريدة، يقدم القصر لزواره “كنوز روسيا الفنية للقرن السابع عشر” على مساحة 408 أمتار مربعة، هي المساحة الإجمالية لجناح بنات القيصر الذي يضم 14 غرفة، علماً ان كل جناح فيه يعتبر تحفة فنية، بدءاً من مدخله الرئيسي بأدراجه الحمراء المؤدية اما الى برج القيصر أو الى ارجاء القصر عبر ابواب معدنية مزخرفة من طراز الباروك، تضفي عليه أنوار الثريات البرونزية رونقاً، وترخي بظلالها على الأيقونات النادرة.
فهندسة الديكور الداخلية للقصر ذات روعة فريدة، إذ ان القيصر أولى الرسوم أهمية في تزيين قصره، فانطبعت الرسوم على الجدران والسقوف، منفذة جميعها بمواد مستخرجة من النبات، إضافة الى اعتماد الكثير من الرخام، والمنحوتات.
وفيما تتميز احدى الغرف ببساط من الأوبيسون تجسد الاسكندر الأكبر في بابل نفّذ للقيصر في المصنع الملكي لسجاد الاوبيسون بفرنسا في النصف الثاني من القرن السابع عشر، تفرض غرفة “ستولوفايا” نفسها كأكبر وأكثر الغرف المزخرفة فيه.
عرش القيصر ومكتبه
أما قاعة عرش القيصر، فتشكل بدورها تحفة من فن النحت بالخشب والزخرفة التي نفذت في بلاد الفرس، وتجاور قاعة الاجتماعات المعرفة باسم “دومانيا”. قاعة أدت دوراً استثنائيا في يوميات القصر، اذ كانت تشهد على لقاءات صباحية بين القيصر واعضاء مجلس الدوما والمستشارين، واصدار المراسيم والقوانين، فيما قاعة عرش القيصرة، تستقبل الزوار بهندستها المميزة والغنية بالألوان المنفلشة على الجدران وفي السقف والنوافذ المزينة بالتماثيل المذهبة، تتدلى من سقفها الفوانيس، وتتوزع في أرجائها مقاعد مزخرفة بالرسوم، والسجاد شرقي، فيما العرش من الخشب الثمين المطعم بالذهب والفضة، والحجارة الكريمة.
أما مكتب القيصر، فيلفت النظر فيه الخشب الذهبي المطعم بالعاج وجلد السلحفاة، كما المقاعد الوثيرة من الجلد والقماش، والكراسي المزخرفة بالمنحوتات، من توقيع الفنان الفرنسي الاستثنائي شارل لوبران من القصر الفرنسي، ومجموعة من الايقونات تعود الى القرنين السادس عشر والتاسع عشر.
قاعات القيصرة
وتستوقف الزائر قاعة عرش القيصرة التي كانت تستضيف فيها المقربات منها من الطبقة الارستقراطية. فسقف هذه القاعة تزينه لوحة ضخمة تجسد الفصول الأربعة، فيما المناظر الطبيعية احتلت الجدران، بألوان مستخرجة جميعها من النباتات. أما أثاث القاعة فمستوحى من التصاميم الايطالية، وأقمشة من النصف الثاني للقرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر، بألوان زاهية يغلب عليها الذهبي والفضي، وتعرض فيها مجموعة من الاعمال الفنية والنحتية، تشكل جزءاً لا يتجزأ من كنوز القصر – المتحف ابرزها ايقونة تعود الى النصف الأول من القرن الثامن عشر، ومكتب من خشب السنديان من طراز النهضة الفلمنكية من القرن السابع عشر، وقطع فنية فريدة في مقدمها جدارية من السجاد، والمكتب والمقاعد من خشب السنديان.
موسيقى لبنانية في صالاته
“قصر كولومنسكوي” الذي تعاقب عليه عدد من القياصرة، وكان وجهة اساسية للامبراطورة اليزابيت ابنة القيصر بطرس الاكبر، التي اتخذت منه مقراً رسمياً للدولة، واعادت تأهيله بإشراف الامبراطورة كاثرين الثانية، وتحافظ هندسته الداخلية اليوم على لمسة القيصر الكسي الفريدة والمميزة، استضاف أمسية موسيقية هي الاولى من نوعها في هذا القصر- المتحف، تحت عنوان “من لبنان الى روسيا مع الموسيقى “، من توقيع “مركز سليكتيوم للفنون والعلوم”، تردد صدى ألحانها طويلاً في أرجائه، وطبع اسمه في أجندة نشاطاته الثقافية السنوية، متطلعاً لمزيد من عزف الرباعي “Quatuor Musique del Tempo” في صالاته العريقة، العابقة بصدى تاريخ قيصر عظيم كتب فصولا مشرفة من تاريخ روسيا في زمن القياصرة.