بعد فترة ليست بالطويلة من هزيمة القوات الأميركية لنظام صدام حسين عام 2003، بدأت قوافل من الشاحنات في الوصول إلى قاعدة أندروز الجوية خارج واشنطن بصورة منتظمة، حاملة شحنات غير معتادة – أوراق نقدية من فئة 100 دولار. وجرى نقل هذه الأموال النقدية، التي تم سحبها من أرصدة الحكومة العراقية داخل الولايات المتحدة، على متن طائرات نقل طراز «سي – 17» تابعة للقوات الجوية إلى بغداد، حيث أملت إدارة جورج بوش في أن توفر هذه الأموال دفعة مالية سريعة للحكومة العراقية الجديدة والاقتصاد العراقي المنهار.
وعلى مدار العام ونصف العام التاليين، تم نقل ما بين 12 و14 مليار دولار جوا إلى العراق، علاوة على 5 مليارات دولار أرسلت عبر التحويل الإلكتروني. أما مصير هذه الأموال بعد وصولها بغداد فقد تحول إلى أحد الأسئلة الكثيرة العالقة منذ فترة الفوضى التي صاحبت الاحتلال الأميركي التي شهدت تدفق المليارات من الولايات المتحدة للعراق في وقت تفشى فيه الفساد.
وأصبح إيجاد إجابة لهذا السؤال المهمة الأولى لستيوارت باون، وهو صديق للرئيس جورج دبليو. بوش من تكساس وتم تعيينه عام 2004 مفتشا خاصا للتحقيق بشأن الفساد وإهدار المال بالعراق. وقبل إغلاق مكتبه نهائيا العام الماضي، اعتقد باون أنه توصل إلى الإجابة، لكن بصورة جزئية فحسب.
خلص باون إلى أن بعض المال ربما استغلته الحكومة العراقية بصورة ما، لكنه ظل عاجزا على مدار سنوات عن تحديد مصير مليارات أخرى حتى تمكن المحققون العاملون تحت رئاسته أخيرا من تحقيق كشف بالغ الأهمية، إذ توصلوا إلى أن ما يتراوح بين 1.2 و1.6 مليار دولار تمت سرقتها ونقلها إلى مخبأ في منطقة ريفية بلبنان. وعن هذا، قال باون: «لا أدري كيف وصلت الأموال إلى لبنان. لو علمت هذا، لتمكنا من تحقيق مزيد من التقدم في هذه القضية».
يذكر أن باون أبقى على هذا الاكتشاف والتحقيق حول المخبأ المليء بالأموال النقدية في لبنان والذي أطلق عليه مسؤولو مكتبه «بريك تريكر»، قيد الكتمان. ولم يناقش علانية قط هذا الأمر حتى هذه اللحظة، وبدا إحباطه من عجز مكتبه عن تحديد مصير الأموال المفقودة بصورة كاملة واضحا خلال سلسلة من اللقاءات أجريت معه. وقد علق بقوله: «تم إخراج مليارات من الدولارات من العراق خلال السنوات العشر الأخيرة بصورة غير قانونية. خلال هذا التحقيق، كان لدينا اعتقاد بأننا في طريقنا نحو الكشف عن مصير بعض الأموال المفقودة. إنه أمر محبط لي شخصيا أننا عجزنا عن إنجاز هذه القضية لأسباب خارج سيطرتنا».
كما يشعر باون بإحباط مماثل لأن إدارة بوش، بخلاف مكتبه، لم تحقق قط في التقارير المتعلقة باختفاء أموال ضخمة، وأنه بعد اكتشاف فريقه لأمر المخبأ لم تتتبع إدارة الرئيس الحالي باراك أوباما هذا الخيط أيضا. وقال باون بأن مسؤولي مكتبه أخطروا «سي آي إيه» و«إف بي آي» بخصوص ما توصلوا إليه. وأضاف أنه من بين أسباب عدم متابعة المسؤولين الأميركيين للقضية، من وجهة نظره أن الأمر برمته كان «أموالا عراقية سرقها عراقيون». ورفض متحدثون رسميون باسم «سي آي إيه» و«إف بي آي» التعليق على هذا الأمر.
من ناحيتها، لم تحاول الحكومة العراقية استعادة الأموال وأبقت على معلومة المخبأ اللبناني سرا. وقال باون، بأنه تحدث إلى رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي حول الأموال المفقودة واكتشاف المخبأ لكنه لم يتخذ أي إجراء، بينما عبر عن غضبه من أسلوب تعامل واشنطن مع الأموال التي نقلت جوا.
يذكر أن الأموال التي نقلت إلى العراق من منشأة ضخمة في نيوجيرسي تابعة لمصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، تخص الصندوق الإنمائي للعراق الذي أنشئ بموجب قرار أصدرته الأمم المتحدة في مايو (أيار) 2003 للاحتفاظ بعائدات النفط العراقية. وكان من المقرر استخدام أموال الصندوق في إعادة إعمار العراق. كما دعا قرار الأمم المتحدة لإنشاء هيئة رقابية لضمان إنفاق سلطة الائتلاف المؤقتة بقيادة الولايات المتحدة التي حكمت البلاد خلال عام 2003 والنصف الأول من عام 2004، الأموال بصورة مناسبة بما يخدم الشعب العراقي.
بالنسبة لسلطة الائتلاف المؤقتة، فإن ميزة استغلال أموال الصندوق الإنمائي بدلا من الأموال التي خصصها الكونغرس للعراق، تكمن في أن الأولى لا ترتبط بها الكثير من القواعد التي تحكم إنفاقها، وعدم خضوعها لتنظيمات فيدرالية أو لرقابة الكونغرس بل كانت تلك أمولا عراقية، لا شيء منها يخص دافعي الضرائب الأميركيين.
وخلال مقابلة أجريت معه، دافع بول بريمر، الذي ترأس سلطة الائتلاف المؤقتة، عن أسلوب إدارة الأموال، وقال: إنه كانت هناك حاجة ماسة للمال للإبقاء على عمل الوزارات العراقية. ودافع بوجه خاص عن قرار الإسراع في عمليات نقل الأموال في يونيو (حزيران) عام 2004، قبيل انتهاء عمل السلطة المؤقتة وحل حكومة عراقية مؤقتة محلها. وخلال الأسبوعين الأخيرين من ذلك الشهر أمرت سلطة الائتلاف المؤقتة بنقل ما بين 4 و5 مليارات دولار نقدا إلى بغداد جوا من نيويورك في سلسلة سريعة من رحلات اللحظات الأخيرة.
وشرح بريمر: «كانت الحكومة العراقية مفلسة في تلك اللحظة. لم يكن موظفو الحكومة قد تلقوا رواتبهم منذ نحو 3 شهور. لذا كان لزاما علينا الحصول على الأموال فورا». وأضاف أنه كانت هناك عملية إدارة موازنة ببغداد تحدد حجم الأموال النقدية التي تطلب من الاحتياطي الفيدرالي. وقال: «القضية هي ماذا حدث للأموال بمجرد توزيعها من خلال وزير المالية. لقد كانت لدينا سجلات واضحة للغاية بالأموال التي تدخل إلى النظام العراقي».
من جهته، رفض باون دفاع بريمر، مؤكدا أن رقابة سلطة الائتلاف المؤقتة على الأموال كانت هشة للغاية، ولم يتوفر سوى القليل من السجلات بخصوص حجم الأموال المنفقة. وأضاف: «عقد مدققونا الماليون لقاءات مع الكثير من كبار مستشاري سلطة الائتلاف المؤقتة، وعلمنا منهم أن السيطرة المفروضة على أموال الصندوق الإنمائي للعراق لم تكن مناسبة. إننا لم نختلق هذا الأمر، وإنما علمناه من مسؤولين بسلطة الائتلاف المؤقتة».
أيضا، شكك مسؤولون سابقون بوزارة الخزانة في الحاجة للنقل الجوي. يذكر أن وزارة الخزانة كانت قد أرسلت بالفعل 1.7 مليار دولار نقدا من حسابات الحكومة العراقية بالولايات المتحدة إلى بغداد خلال الأسابيع الأولى بعد الغزو، ثم صمموا عملة عراقية جديدة تم إقرارها في أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام. وقالوا: إن العملة الجديدة قضت على الحاجة لمزيد من ضخ الأموال النقدية من الولايات المتحدة.
من ناحيته، أكد غيد سميث، رئيس فريق العمل التابع لوزارة الخزانة المعني بإعادة إعمار العراق بعد الغزو، أنه: «لم نعلم أن بريمر ينقل جوا كل هذه الأموال. ولا أرى سببا لها».
وأوضح باون أن «بريك تريكر»، أكثر التحقيقات التي أجراها مكتبه حساسية، وبدأت عام 2010 عندما تلقى وائل الزين، وهو لبناني – أميركي يعمل بمكتبه، معلومات تفيد بإخفاء أموال مسروقة في لبنان. وأخبره مرشد عن أمر المستودع، والذي بجانب الأموال النقدية يعتقد أنه يضم كذلك ذهبا بقيمة 200 مليون دولار تقريبا يخص الحكومة العراقية.
إلا أنه بحلول ذلك الوقت، كانت واشنطن قد نسيت منذ فترة بعيدة أمر الأموال المنقولة جوا. ولم تبد «سي آي إيه» اهتماما بمتابعة الموضوع، بينما قالت: «إف بي آي» أنها تفتقد السلطة اللازمة لذلك. وعندما حاول باون إجراء تحقيق بخصوص الأموال النقدية المفقودة في لبنان، قابلوا رفضا من السفارة الأميركية ببيروت.
لم يسمح لباون بالسفر للبنان في مهمة رسمية. ورفضت السفارة منح اثنين من معاونيه كانا قد سافرا إلى لبنان تصريحا بزيارة المخبأ بنفسيهما لأنه بالغ الخطورة. وعندما التقى معاونو باون في بيروت مع المدعي العام اللبناني، سعيد ميرزا، وافق في البداية على التعاون معهم، ثم تراجع عن ذلك لاحقا.
جدير بالذكر أن مكتب المفتش العام في العراق أغلق عام 2013. ويعمل باون حاليا بالقطاع الخاص. ويعتقد باون أن بعض المال على الأقل تم نقله، وأضاف أنه من المستحيل الجزم بما إذا كان لا يزال داخل المخبأ. وأكد أنه لا يزال يشعر بالإحباط حيال عدم تعاون حكومته مع جهوده في تتبع الأموال المفقودة. وقال: «لقد ناضلنا للحصول على دعم مناسب من وكالات مختلفة أثناء متابعتنا لهذه القضية».