بودابست «لؤلؤة المجر»… مدينة بنكهة مختلفة

ما أن يُذكر اسم بودابست حتى تأتي التعليقات سريعاً: إنها بلد الجمال والرومانسية والمناظر البانورامية الأخاذة، بلد المعمار وينابيع المياه المعدنية الساخنة والمنتجعات الاستشفائية، بلد المطبخ الشهي وأكلة «الغولاش» وفلفل «البابريكا»، بلد الفروسية وصيد الإوز والبط والغزلان والثعالب، بلد الموسيقييْن فرانز ليست وبيلا بارتوك، والبلد الذي ألهم أعمالاً موسيقية وفنية رائعة مثل مقطوعة «الدانوب الأزرق»، وصُورت فيه أو عنه أفلام تجاوز عددها الستين، وآخرها «ذي غراند بودابست هوتيل».

وعندما تقرأ عن بودابست، تحبها أكثر… بتاريخها… بكبرياء أهلها وصمودهم وحفاظهم على هويتهم ولغتهم وإرثهم أمام كل الغزوات والاحتلالات التي تعرضت لها بلادهم، من المغول (الذين دمروها)، ثم العثمانيين وعائلة هابسبورغ، ولاحقاً النازيين والشيوعيين السوفيات.

ثم تزورها، وتكتشف أن الكلام والقراءة شيء، والواقع شيء آخر. يغمرك من الوهلة الأولى دفء أهلها وطيبتهم وكرم ضيافتهم، بما يُذكّر بالطباع والعادات العربية. ولا غراوة، فالمجر نقطة التقاء الغرب مع الشرق، وتمتزج في قومها الأصول الغربية والشرقية (قبائل من أصول تركمانية). رغم ذلك، فإن طموح هذه المدينة الأوروبية الشرقية للانضمام إلى نادي الدول الأوروبية كدولة معاصرة يتبدى في مساعي التحديث المتواصلة. فاللغة الإنكليزية متداولة على نحو واسع، يوازيها تجاهل ما يتعلق بالحقبة الشيوعية، وانفتاح على عالم الرفاهية الغربية، إذ لم يعد غريباً أن ترى فيها فروعاً لبوتيكات العلامات التجارية الدولية الشهيرة، كما المطاعم الفاخرة من جنسيات مختلفة، خصوصاً الصينية واليابانية مثل «نوبو».

 

«لؤلؤة المجر»

بودابست هي «لؤلؤة» المجر، كما يصفونها، وعاصمتها وأكبر مدنها. تمتد على ضفتي نهر الدانوب الشهير وتعتبر «ملكته». تم توحيدها من مدينتين هما بودا القديمة المبنية فوق التلال على الضفة الغربية من النهر، وتنتشر فيها القصور التي تحوّل بعضها الى مقار حكومية أو فنادق فاخرة أو متاحف، ومدينة بست (بشت كما يلفظها أهلها) على الضفة الشرقية من النهر، وتشكل المركز الحكومي والتجاري النابض للمدينة التي تعتبر أكبر سادس مدن الاتحاد الأوروبي، ويبلغ عدد سكانها مليوني نسمة.

 

الدانوب «نهر العواصم»

يخترقها نهر الدانوب، أطول نهر في الاتحاد الأوروبي، وثاني أطول نهر في أوروبا بعد نهر الفولغا. ينبع من الغابة السوداء في ألمانيا، ويعبر عشر دول أوروبية أو يحاذيها، ويلقب بـ «نهر العواصم» لأنه يمر بأربعة عواصم هي فيينا وبراتيسلافا وبلغراد وبودابست.

لكن الدانوب في بودابست لا يشبه ذاك الذي ألهم الموسيقار الشهير يوهان شتراوس في مقطوعته «الدانوب الأزرق»، بل هو أقرب إلى وصف الشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش في قصيدته «الدانوب ليس أزرق». ويُقال إن النهر فعلاً يصبح أزرق في بعض مقاطعه، وتحديداً في منطقة تقع بين بودابست ورومانيا، لكنه يتشح باللون الرمادي في باقي مساره، وربما بفعل التلوث والعوامل الطبيعية.

على ضفتي النهر، تنتشر قائمة طويلة من المعالم السياحية والتاريخية والدينية، تتربع على قمتها مبانٍ أثرية وقصور وجسور وكنائس. وأي جولة سياحية لا بد من ان تمر بمنطقة القصور التي أُدرجت على «قائمة التراث العالمي» ويتم إعادة ترميمها، وفيها القصر الملكي السابق الذي يحوي الآن متحف التاريخ والمتحف الوطني والمكتبة الوطنية. وقريباً منه يقع مرج صيادي السمك، وكنيسة ماثياس التي حوّلت إلى مسجد في عهد العثمانيين. ومن المعالم المهمة الأخرى البرلمان، وميدان الأبطال، والقلعة، ودار الأوبرا، وقصر الفنون، ومتحف بودابست التاريخي، والحديقة العامة (سيتي بارك)، إضافة إلى جسر السلسلة (لانشيد) وجسر «زيتشني»، وهو الأقدم وكان يربط بودا مع بست. أما تمثال طير «تورول» الأسطوري، فيحلق عالياً على تل في بودا، وتقول الأسطورة إنه أرشد القبائل المجرية إلى هذه المنطقة حيث استقرت وبنت دولتها.

معظم هذه المعالم يعود إلى القرن التاسع عشر الذي يعتبر العصر الذهبي للمجر. وفيه ما يذكّر بالمدن الأوروبية، خصوصاً لجهة الفن المعماري والطلات البانورامية. وبسبب هذا التأثير الأوروبي، ليس غريباً أن تسمى بودابست «باريس الشرق»، وأن يُطلق على أحد أهم شوارعها، شارع أندراشي، اسم «الشانزيليزيه»، وهو فعلاً صمم على هيئة الشانزيليزيه الفرنسية في القرن التاسع عشر، علماً أن هذا الشارع أدرج أيضاً ضمن قائمة «يونيسكو» للمناطق المحمية.

أما «دار الأوبرا» المجرية فهي تشبه أوبرا فيينا الشهيرة، لكنها أكبر وأجمل وأكثر زخرفة بحيث تلائم الشخصية الحضارية المجرية ذات الأصول الشرقية الآسيوية، علماً أن المجر كانت جزءاً من الإمبراطورية النمسوية – المجرية.

والتأثير البريطاني واضح في بودابست، تراه في بناء الجسور، مثل «جسر السلسلة» الذي صممه مهندس إنكليزي على هيئة جسر مماثل وأقل حجماً بناه في مارلو البريطانية. كما أن نظرة واحدة على البرلمان المجري تستحضر البرلمان البريطاني (ويستمنستر)، خصوصاً أن مهندسه درس الهندسة في بريطانيا.

والبرلمان المجري يعد أحد أجمل المباني في المدينة، وهو ثالث أكبر برلمان في العالم، وهو الأعلى كلفة لأن معظم جدرانه والإكسسوارات مطلية بذهب من عيار 24، فيما الرقم 96 له رمزيته في هذا المبنى، إذ يبلغ ارتفاعه 96 متراً، وله 96 درجة في المدخل، في ما هو تمجيد لتاريخ وحدة قبائل الهان العام 896.

يضاء مبنى البرلمان ليلاً بالكامل ليتحول إلى جوهرة تطل على نهر الدانوب. كما يتوسط إحدى قاعاته «التاج الملكي» الذي يعتبره المجريون أعلى مراحل الفخر الوطني، ويحاط بحماية فائقة، ويُمنع تصويره أو الاقتراب منه. وما زالت منافض السيغار التقليدية منتشرة في أرجاء البرلمان لتكون شاهداً على تقليد ولّى بعد منع التدخين في البرلمان قبل عشر سنوات.

 

بورسيلان «هاراند» الملكي

وتتوسط إحدى غرف البرلمان زهرية ضخمة وجميلة من البورسيلان مزخرفة يدوياً من انتاج مصنع «هاراند» الشهير المعروف على مستوى العائلات الحاكمة في العالم. وبورسيلان «هاراند» يعد فخر الصناعة المجرية، بل يوصف بـ «الذهب الأبيض». وأُعلن أخيراً أن هنغاريا أهدت الأمير البريطاني وليام وكيت ميدلتون عشية زفافهما طقماً يتكون من 45 قطعة من أواني الطعام من هذا الطراز يطلق عليها «الحديقة الملكية»، وهي هدية قرر الزوجان الملكيان الاحتفاظ بها، على غير العادة، لما لها من قيمة معنوية للأمير، علماً أن والدته الأميرة ديانا كانت من هواة جمع هذا النوع من البورسيلان، وكانت تلقت عشية زفافها من الأمير تشارلز هدية مماثلة من هنغاريا العام 1981.

سحر بانورامي

على أن سحر المدينة ورومانسيتها يتبديان في طلاتها البانورامية، وفي ليلها. فلا أجمل منها عندما يتسلل الغروب وتنطفئ الشمس على إنارة مدروسة صممتها شركات أجنبية استقدمت خصيصاً لهذا الغرض. وها هي المدينة تنكشف أمامكم بأجمل حليها، وترون انعكاساتها على صفحات مياه نهر الدانوب. وثمة طلات بانورامية كثيرة على المدينة ونهرها، خصوصاً من بودا الواقعة على التلال، من بينها تلة «غيليرت»، والعجلة العملاقة عين زيغيت، أو من مرج صيادي السمك، أو حتى تناول الطعام في مطعم «هالاسباستيا» المطل على الدانوب ويقوم المطبخ المجري الحديث.

وثمة طرق مختلفة لاستكشاف المدينة وكنوزها براً في الباصات السياحية، أو بحراً على متن سفن «دوناراما»، أو جواً على متن هليكوبتر أو طائرة «إل إي-2» وهي الوحيدة في أوروبا التي ما زالت صالحة للاستعمال للأغراض السياحية.

 

الماضي الحاضر

وعلى رغم أن بودابست انقلبت على ماضيها الشيوعي، فغيّرت أسماء شوارعها وأزالت التماثيل المرتبطة بتلك الحقبة، وقامت بتحديث المدينة إلى ما هي عليه اليوم، إلا أن الماضي القريب ما زال حاضراً عبر شواهد عددت بعضها مجلة «وير» الهنغارية في عددها الأخير، ومنها: متحف «منزل الرعب» الذي اتخذه البوليس السري الشيوعي مقراً له، ويعرض للجرائم التي ارتكبت في عهد ستالين. «ميمينتو بارك» على مشارف بودا، والذي يضم تماثيل ونصباً تذكارية قديمة وحديثة، منها قدم ستالين، وهي الجزء المتبقي من تمثال له تم تدميره خلال انتفاضة العام 1956. النصب التذكاري السوفياتي الذي أقيم في ذكرى نصر الجيش الأحمر العام 1945. تمثال إيمر ناغي واقفاً على جسر يرنو الى مبنى البرلمان، علماً أن ناغي هو قائد انتفاضة العام 1956 ضد الستالينية والسوفيات، والتي انتهت بإعدامه. مقهى «بامبي اسبريسو» الذي حافظ على ديكوره الخارجي والداخلي منذ افتتاحه قبل 50 عاماً، وعليه إقبال كبير حتى اليوم، ربما لأنه يذكّر المجريين بالجوانب الإيجابية للحقبة الشيوعية، وعلى رأسها توفير حاجاتهم الأساسية من وظائف ورواتب تقاعد وتعليم مجاني، والكثير من المنتجات الاستهلاكية، ما جعل المجر في حينه «الثكنة الأسعد» للكتلة الشرقية. تضاف إلى ذلك واجهات المباني في المقاطعة الثامنة (بلدة جوزيف)، والتي ما زالت أثار الرصاص بادية عليها، لتظل شاهداً على المعارك خلال انتفاضة العام 1956.

على رغم ذلك، يفاخر المجريون بإرثهم الحضاري، فتسمعهم يقولون إن لديهم ثالث أكبر محطة أنفاق وثالث أكبر برلمان في العالم، وإنهم اخترعوا الكومبيوتر، في إشارة إلى جهود عالم الرياضيات المجري جون فون نيومان في هذا الصدد، وإنهم اخترعوا «منهج كودالي» لتعليم الموسيقى (لمخترعه زاتون كودالي)، ولعبة «مكعب روبيك» الأكثر مبيعاً في العالم، وقلم الحبر الجاف من نوع «بيرو» (لمخترعه لاسلو يوغف بيرو). كما تسمعهم يتحدثون عن جائزة «بوليتزر» التي استحدثها جوزيف بوليتزر، المجري الأصل الذي كان أكبر ناشر للصحافة الأميركية في التاريخ. ويضيفون أن مجلة «الناشينول جيوغرافيك» اعتبرت خط «الترام 2» سابع أهم منظر في العالم.

ينابيع المياه الساخنة

ولا تكتمل زيارة بودابست من دون زيارة المنتجعات الاستشفائية الاستجمامية التي تشتهر بها البلاد، خصوصاً بوجود المياه الساخنة المعدنية التي جعلت من المجر إحدى الوجهات الرئيسة للسياح الذي يبحثون عن الاستشفاء والعلاج الطبيعي، ووصفت بـ «مدينة المنتجعات الطبيعية». فبسبب موقعها بين صدعين، تندفع موجات البحر من الجهتين لتستقر تحت أرض المجر، ونتيجة الضغط تسخن وتخرج إلى السطح على هيئة 118 ينبوعاً. ومن المنتجعات الأشهر في بودابست منتجع «زيتشنيي» حيث البرك الخارجية والداخلية، وعلاجات التدليك المختلفة، ويقع في مبنى ضخم في الحديقة العامة (سيتي بارك).

كما تمتاز هذه المدينة بالحمامات التركية الأصلية التي تعود إلى القرون الوسطى، علماً أن هذه الحمامات لم تعد موجودة في أي عاصمة في الاتحاد الأوروبي.

المطبخ المجري

كما لا تكتمل الزيارة من دون تذوق المطبخ المجري الشهير بأسماكه المتنوعة ولحوم الغزلان والبط والإوز. فكثيرون تذوقوا أكلة «الغولاش» أو سمعوا بها، كما الحلويات «غاربو» و «دوبوش» و «ساتماري» و «ريتاش». ومن أشهر المنتجات في المجر، الفلفل الحار (البابريكا) الذي ينتج على مستوى واسع ويعرف على مستوى العالم بأنه الأفضل، كما تنتج الـ «فوا غرا» (كبد الإوز) و «الباتيه» بأنواعها.

وبودابست ليست بعيدة من عالم الموضة، إذ تنتشر في شارع «أندراشي» بوتيكات العلامات التجارية العالمية، كما في مول «إيل باسو دي ستيلا»، وأيضاً في شارع المشاة «فاشي». لكن لأن الموضة باتت متشابهة في العالم كله بفعل العولمة، فإن الماركات المحلية المعاصرة توفر بديلاً للاختلاف والتمايز، ومن بين الأشهر «نانوشكا» و «كيت زيفيدي» و «توثبوري» ومجوهرات «فارغا»، وأيضاً أحذية الرياضة (تنس شوز) من ماركة «فاز شيبو».

وقصة هذه الماركة تروى، فهي علامة تجارية اشتهرت في الحقبة الشيوعية وانتشرت بشكل واسع، قبل أن يتوقف المصنع عن انتاجها. وما لبث أن أعيد انتاجها بشكل معاصر وجديد العام 2003، لتنافس ماركات «نايك» و «أديداس» في النوعية، ولتتفوق عليهما في السعر والإقبال.

بوجود هذا الإرث والثراء، تطمح المجر إلى أن تتحول إلى قبلة سياحية، ويزورها 4,3 مليون سائح سنوياً، ما يجعلها سادس وجهة سياحية في أوروبا لجهة عدد السياح. غير أن الإقبال الأكبر عليها يأتي من آسيا (6,5 في المئة)، بينما تنخفض السياحة من الشرق الأوسط إلى 0.6 في المئة.

… وللحديث عن بودابست بقية تُترك لكل راغب في زيارتها واستكشاف جمالياتها وخفاياها وسرّها.

+ -
.