يمرّ الوقت سريعاً في طليطلة (توليدو)، على غرار المسافة التي تجتازها السيارة لبلوغها من مدريد (70 كلم جنوباً)، في ذلك اليوم الذي صحا الطقس فيه، ربما ليسمح لنا بهذه الزيارة الخاطفة، علماً أن غيوماً صاحبت مسارنا مع زخات مطر متفرّقة.
في طريقنا إلى هناك عبرنا الطريق السريع المجاور لبلدات متناثرة وبساتين زيتون. وهاد تخترق أحياء هادئة، يسرح النظر صوبها. أماكن هي عدوّة الصخب تشحنك بالراحة والحماسة في آن استعداداً للتعرّف إلى معالم قرأت عنها وطالما تمنيت أن تعاينها على الطبيعة، في مدينة صنفّتها الـ «يونيسكو» موطناً للإنسانية.
تقصد طليطلة التي «احتضنت» الرسام الشهير «المعلّم» أل غريكو، وهي تحتفل بالذكرى المئوية الرابعة لوفاته. تتجوّل ضمن مساحة 4 كيلومترات مربعة (المدينة القديمة)، حيث أزقة ضيقة تتلوى وتلتف حول بيوت وأديرة ومراكز عبادة ودارات لكل منها قصة ورواية، بطبقات من عصور وحضارات مختلفة، وساحات موزعة على 12 تلة ورابية.
تبدأ الزيارة باعتلاء الدرج الكهربائي الموازي لـ614 درجة من الصخر المنحوت. ومن فوق على قمة الهضبة (75 متراً) تبدو المدينة وجوارها يخترقهما نهر تاخو (التاج) العابر من البرتغال (من الغرب إلى الجنوب مسافة 1008 كلم).
هنا القصر الكبير (الكازار) رابض بأناقة مرحّباً بأفواج السياح، تلك العمارة الرومانية التي تحوّلت إلى مركز للمدينة في الحقبة الإسلامية (الأندلسية)، ثم إلى مدرسة حربية بعد الحرب العالمية الأولى، وإلى مكتبة حالياً.
بداية الاكتشاف تنطلق من ساحة زوكودوفير (طريق الدواب) التي دمّرت في الحرب الأهلية (1936)، وأعيد إعمارها وتأهيلها عام 1945، ومذّاك الوقت درج على تنظيفها يومياً بالمياه. وينتصب في وسطها بناء «بوابة الملك» أو «بوابة التسامح».
ويخبرك صاحب محل لبيع التذكارات، وفي مقدّمها السيوف (إذ تشتهر المدينة بصناعة الفولاذ) ومجسّمات الأبراج وحلوى المرصبان «مرزبانية» (عجينة اللوز والسكر التي أنقذت كثيرين من الموت في أيام المجاعة عام 1084 بسبب الحصار الذي فرضه الملك ألفونسو السادس)، أن المدينة تنتظر 4 ملايين سائح هذا العام، أي ضعفي العدد الذي يزورها سنوياً نظراً إلى الاحتفالات بذكرى وفاة أل غريكو.
وقبل أن تغادر مودّعاً، لا بدّ من «ساعة صفاء» من على الشرفة الفسيحة في الـ «بارادور»، حيث تتلّمس المنظر البانورامي المُذهل للمدينة ومعالمها، من الهضبة المقابلة، والتي تصلها بعد سلوكك درب «تلة الأثرياء»، حيث الدارات الفخمة والفلل الوادعة كل منها في ملكيات لا تقل مساحاتها عن الـ10 آلاف متر مربع. وهذا طبعاً من شروط التملّك، علماً أن مالكيها الميسورين لا يقصدونها إلا مرتين أو ثلاثاً في السنة.
منارة العصور الوسطى
طليطلة هي عاصمة مقاطعة طليطلة ومنطقة كاستيا لامنتشا في وسط إسبانيا، لا يتعدى سكانها الـ85 ألف نسمة. تقع على مرتفع منيع تحيط به أودية وأجراف عميقة. وقد أعلنتها الـ «يونيسكو» عام 1986 موقعاً للتراث العالمي، بصفتها واحدة من العواصم السابقة للإمبراطورية الإسبانية، ومكاناً لتعايش الثقافات الإسلامية والمسيحية واليهودية، فلا عجب إن صادفت كنيس «سانتا ماريا لا بلانكا» وجامع «يسوع النور» «متجاورين».
وعلى رغم ما نابها من التدمير المعماري للآثار الأندلسيّة، فإن بصمات ازدهار طليطلة الثقافي لا يمكن إنكارها في وقت كانت جامعتها تمثل المركزية المعرفية والثقافية في أوروبا. وساعدت على تأسيس غالبية العلوم الوضعية، وهي أشبه بمنارة في ظلام العصور الوسطى بتألقها الفلسفي ما بين ابن رشد وابن ميمون، ثم انتقلت الأهمية مع نقل ألفونسو السادس العاصمة إلى مدريد.
جامعة حضارات
وتشير دراسات إلى أن طليطلة بنيت في زمن الإغريق، وازدهرت في عهد الرومان، فحصنوها بالأسوار، وأقاموا فيها المسرح والجسر العظيم. وبلغت ذروتها في عصر الخلافة الإسلامية عندما كانت جميلة، بمزيج من الفن والعلم.
وكانت تُعرف في القرون الوسطى باسم «مدينة التسامح» حيث كان يتعايش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون. ويرجع اسم المدينة إلى العهد الروماني، حيث كان يطلق عليها اسم «توليدو» وتعني بالرومانية «المدينة المحصّنة».
وأيام الحكم الإسلامي لإسبانيا، كانت طليطلة مدينة أندلسية عريقة في القدم. والاسم تعريب للاسم اللاتيني «توليدوث»، Tholedoth، وكان العرب يسمونها مدينة الأملاك لأنها كانت عاصمة مملكة القوط الغربيين (من 534 إلى 711).
وفتحت طليطلة على أيدي المسلمين بقيادة طارق بن زياد عام 712 بعد انتصارهم بمعركة وادي لكة على القوط. وظلّت المدينة بعد ذلك تتمتع بتفوقها السياسي على سائر مدن الأندلس، وانتظمت في عهد خلافة عبدالرحمن الناصر، وازدهر فيها فن العمارة.
ومن الروايات، أنه عندما سقطت الأندلس في أيدي المسلمين لم يعمدوا إلى القضاء على المسيحية فوراً. ويعتقد أن المسجد الرئيسي للمدينة تحوّل إلى بناء كاتدرائية طليطلة بعد سقوطها في أيدي الإسبان مجدداً. كما يشير محققون إلى أن قاعة الصلاة في المسجد تتطابق في الشكل مع الكاتدرائية الحالية.
وكان من أبرز ما قدّمه موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد من الغنائم التذكارية النفيسة مائدة تفوق قيمتها كل تقدير. كان طارق بن زياد قد غنمها من كاتدرائية طليطلة، وكان القوط تفننوا في صنعها فنسبها العرب إلى سليمان بن داود، وأطلق عليها هذا الاسم كناية عن قدمها وعظم شأنها.
واختلفت الروايات أيضاً في وصف هذه المائدة وبيان هيئتها وسبب وجودها. فذكرت إحداها أن الأغنياء والموسرين من القوط دأبوا على أن يوصلوا للكنائس بقدر معلوم من ثرواتهم عند الوفاة، وكلّما تجمّع المال الوفير بين المشرفين على تلك الكنائس أمروا بصناعة موائد وكراسٍ من الذهب والفضة يضع القساوسة عليها الأناجيل في أيام الاحتفالات من أجل المباهاة والتفاخر. ونالت كنيسة طليطلة مقداراً كبيراً من مال الوصايا، خصوصاً أنها كانت مقرّ البيت المالك، لذا تأنق الملوك في صنع مائدة لهذه الكنيسة فاقت مثيلاتها في سائر إسبانيا، إذ حرص كل ملك على أن يزيد في مائدة كنيسة طليطلة إعلاء لذكره وتباهياً بعاصمة ملكه حتى صار لها مركز الصدارة في البلاد، وتحدث الجميع عن جمالها وعلو قيمتها. فكانت مصنوعة من الذهب الخالص مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد.
وقد أجمعت الروايات على عظمة هذا الكنز الثمين الذي فاقت أخباره ما عداه من كنوز وجدت في سائر مدن الأندلس. ويرجّح أن هذه المائدة كانت مذبح الكنيسة الجامعة في طليطلة، وعلى درجة خيالية من الجمال حتى تليق بعاصمة القوط، ولتكون رمزاً على ثراء دولتهم وغناها الوافر.
عبّر مؤرخو العرب عن عظمة موقع طليطلة، من ذلك ما ذكره الحميري في كتابه «الروض المعطار في عجائب الأقطار» إذ يقول: «وهي على ضفة النهر الكبير، وقلّ ما يرى مثلها إتقاناً وشماخة بنيان، وهي عالية الذرى، حسنة البقعة»، ثم يقول في موضع آخر: «ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة، وقلاع منيعة، وعلى بُعد منها في جهة الشمال الجبل العظيم المعروف بالشارات».
تتميز طليطلة عن باقي المدن الإسبانية بأن فيها واحدة من الأسواق الكبرى في العالم التي تضم تحفاً وهدايا ذات الطابع الأندلسي خصوصاً. كما تشتهر بمصانع السجاد والسيوف والحفريات إلى صناعات حرفية يدوية.
كاتدرائية طليطلة هي كاتدرائية السيدة العذراء، ذات الأبواب السبعة، شيّدت وفق الطراز القوطي على غرار كاتدرائية بوورج، واستغرق ذلك 267 سنة (1226 و1493)، وتتميّز بقبتها التي يبلغ ارتفاعها 92 متراً. وكانوا ينوون بناء قبة أخرى بالارتفاع نفسه لكنهم اكتشفوا خلال أعمال حفر مجرى للماء فصرفوا النظر خشية تأثيره في متانة البنيان والأساسات.
وهي ثاني أكبر كاتدرائية في إسبانيا (بعد كاتدرائية إشبيلية)، والثالثة في العالم (الكاتدرائية المماثلة الأكبر هي كاتدرائية ميلانو). وتضم مكتبتها ملايين المخطوطات والوثائق من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر.
«ألوان حية»
كانت طليطلة موطناً لأل غريكو في الجزء الأخير من حياته، وتوفي فيها في 7 نيسان (أبريل) عام 1914. وقد حوّل منزله إلى متحف. ونظّم هذا العام معرض استعادي لأعماله في متحف سانتا كروز في المدينة، استمر حتى نهاية تموز (يوليو) الماضي. ويقام معرض آخر حتى 9 كانون الأول (ديسمبر) المقبل.
استدعي أل غريكو في عزّ نشاطه إلى طليطلة لتوقيع عقود طويلة الأمد من أجل تكريس ما بقي من عمره لرسم اللوحات الدينية مع فريق مساعديه، واستقر فيها عام 1577.
يصوّر أل غريكو طليطلة بأكثر من لوحة سابراً بعدها الروحي الميتافيزيقي الهائل. لذا كُني باسمها.
وتكشف المعارض معنى اسمه وكنيته، على رغم شيوعها منذ أربعة قرون، وهي: اليوناني – الطليطلي le greco de Tolède. فالحروب خلفت عنصرية وحماسة قومية لا تزال آثارهما حتى الآن، فالإسبان لا يرضون بأن يكون رمزهم الثقافي من أصل يوناني (لأنه ولد في جزيرة كريت عام 1541).
لعل هذا السبب هو سبب التسمية ذاتها، وأكثر من ذلك فقد تعلّم أل غريكو في روما. وقد كشف المعرض الاستعادي عن أعماله قبل وصوله إلى طليطلة لا سيما المرحلة الإيطالية. كما يتمّ الاعتراف بـ «أرثوذكسيته» بسبب أصله اليوناني وبما يناقض تخصصّه في اللوحات الكاثوليكية الإسبانية، علماً أن مهنته الأولى هي تصوير الأيقونات البيزنطية، وهذا لم يكتشف حتى عام 1981.
وقد منحه التلّون الخصب صفة الشمولية الروحانية على المستوى الفني، ما يفسر انتشار تأثيره خارج إسبانيا، فضلاً عن طبع تأثيره المحلي في كبار فناني إسبانيا.