أدت التغييرات الدراماتيكية التي أحدثها تنظيم «داعش» في سورية والعراق العام الماضي إلى تغيير في أولويات المجتمع الدولي لا سيما الولايات المتحدة تجاه الأزمة السورية، فالأولوية الآن بالنسبة إلى واشنطن هي محاربة تنظيم «داعش» والقضاء على الإرهاب المتنامي الذي أخذ من سورية معقلاً له، مع ما يترتب على ذلك من تفاهمات وتحالفات ميدانية مع النظام وحلفائه لتحقيق ذلك.
وإذا كانت واشنطن مقتنعة خلال السنوات الثلاث الماضية أن إزالة نظام الأسد ستؤدي إلى حرب أهلية، فإنها اليوم على قناعة إن إزالة النظام بعد هذه التغييرات ستؤدي إلى فوضى عارمة، ليس في سورية فحسب بل في عموم المشرق العربي، وهو ما يتجاوز حدود المصلحة القومية الأميركية.
التغير في الخطاب السياسي الأميركي والدولي واضح: جون كيري يقول قبل نحو شهر إن الأسد مطالب أن يضع شعبه في المقدمة وأن يفكر في عواقب أفعاله، التي جذبت المزيد من الإرهابيين إلى سورية (اعتراف غير مباشر بالنظام)، والأمم المتحدة على لسان دي ميستورا تدعو إلى ضبط الطموحات في أي حل سياسي مرجو ومن دون شروط مسبقة.
لقد بدا جلياً من خلال التصريحات الغربية خلال الفترة الأخيرة بما فيها التصريحات الأوروبية أن مسألة إزاحة الأسد عن الحكم ستكون الخطوة الأخيرة لمسار عسكري وسياسي طويل وليس مقدمة لذلك، بمعنى أن استبعاد الأسد سيتم حين تكون عملية تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالية قد انتهت، وترسخت بنية نظام جديد يجمع طرفي الأزمة، وهذه هي مهمة موسكو، حيث يعجز الغرب عن إجراء استدارة كبيرة في مواقفه، مما سيفقده مصداقيته في الداخل والخارج. إنه تبادل للأدوار في سورية: الولايات المتحدة تتكفل بمحاربة التنظيمات الإرهابية من دون تقوية «الجيش الحر»، وروسيا تتكفل بتهيئة شروط الحل السياسي، من دون إزاحة النظام.
من هنا يمكن فهم الترحيب الأميركي والدولي بمنتدى موسكو، الذي ضرب بعرض الحائط ما تحقق في «جنيف 2» مكتفياً بمبادئ عامة مستوحاة من «جنيف 1» ومقررات الشرعية الدولية التي يمكن تحويلها بسهولة لمصلحة طرف من أطراف الأزمة، حيث لا تتضمن أي آلية واضحة لحلها، والفقرة الوحيدة التي جاءت في «جنيف 1» وشكلت أساساً لحل الأزمة (هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة) كانت خارج ما تم التفكير فيه داخل منتدى موسكو.
أدركت موسكو المتغير الجديد في التعاطي الأميركي تجاه سورية منذ عدة أشهر، وعمدت، وهي المثقلة بالأزمة الأوكرانية والأزمة الاقتصادية، إلى البحث عن دور سياسي ريادي يعيد تسويقها دولياً ويعيد إنتاج حليفها النظام السوري تحت عنوان «موسكو 1»، وشق صفوف المعارضة عبر توجيه الدعوة إلى شخصيات معينة وليس إلى هيئات، في خطوة تهدف إلى تعويم شخصيات مقربة من النظام تحت لباس المعارضة.
غير أن الإستراتيجيتين الأميركية والروسية ستنتهيان بالفشل، لأن الأزمة السورية بلغت حداً من التركيب والتعقيد يجعل من اجتراح حل سياسي أمراً مستحيلاً في المديين القريب والمتوسط، ويتجاوز قدرة طرف بعينه سواء كان واشنطن أم موسكو.
الشروط السياسية لإنضاج أي حل لا تزال غير متوافرة في سورية:
ـ النظام يختزل الأزمة بمحاربة «الإرهاب» من أجل الهروب من أي استحقاق سياسي، ويعتبر المعارضين السوريين الفاعلين مجرد عملاء وخونة.
ـ على الصعيد العسكري، ما زال الواقع يعمق الصراع حيث لم تستطع الأطراف المتقاتلة حسم المعركة لصالحها، ويبدو مما يجري أن لدى كل الأطراف الاستعداد والقدرة على الاستمرار سنوات في القتال.
ـ الدول الإقليمية أيضاً ليست بصدد تقديم تنازلات، ولم يصل الأمر لديها إلى حد القبول بحلول وسط. إيران ترفض أي اقتراح يستبعد الأسد، وتركيا والسعودية ترفضان أي حل بوجود الأسد، فيما القاهرة تجتهد لإيجاد حل يتفق مع مصالح السلطة فيها.