يأخذ الغياب في تجربة غادة السمّان معاني مختلفة عن معناه التقليدي اللصيق بالكلمة. فهي حين غابت عن دمشق، مسقط الرأس، لم تغادرها. ولمّا غابت عن بيروت، مسقط القلب، ظلّت تستحضرها. وقد اعتادت السمّان فكرة الغياب عن وسط أدبي كانت هي نجمته يوماً، لتعود إليه من حين إلى آخر. فمرّة تكون عودتها جزئية، عبر أعمال تُعيد طباعتها عن دارها الخاصة ضمن سلسلة الأعمال غير الكاملة. وأخرى عودة فعلية عبر إصدارٍ حديث، سرعان ما يتحوّل إلى مناسبة للاحتفاء بغادة السمّان نفسها. هكذا يبدو الغياب كأنّه لعبة تتقنها الكاتبة الكبيرة، ليصبح في قاموسها الخاص مرادفاً لمعنى الحضور. هو الحضور في صوره الأكثر توهجاً. وبعد مرور نحو عقد على كتابها الأخير، تختار غادة السمّان أن تعود إلى قرّائها برواية جديدة تُمثّل الجزء الثاني من «الرواية المستحيلة»، التي صارت فيلماً سينمائياً يحمل عنوان الفصل الأخير منها «حرّاس الصمت».
للوهلة الأولى، يسوقنا عنوان الرواية «يا دمشق وداعاً» (منشورات غادة السمّان) إلى أزقة الشام العتيقة، إلى قلب مدينة جميلة اختفت معالمها جراء حرب هوجاء بدأت قبل أربع سنوات، ومازالت. عنوان لمّاح يحيلنا على واقع سورية اليوم، بحيث تبدو الكاتبة السورية متألمة لما يجري في مدينتها الحبيبة، فكأنها تُناديها بصوت تخنقه العَبَرة «يا دمشق وداعاً». ولكن، صفحة تلو أخرى، نكتشف أنّ المدينة التي تخاطبها الكاتبة مودّعةً هي دمشق الأمس، لا اليوم. المدينة التي أصدر مسؤولون فيها قراراً غيابياً يقضي بسجنها ثلاثة أشهر، فغادرتها إلى غير رجعة، حتى بعدما شملها العفو.
تمرّد أنثى
تبدأ غادة السمّان روايتها من حيث انتهت «الرواية المستحيلة»، وتختار لها عنواناً فرعياً هو «فسيفساء التمرّد» بدلاً من «فسيفساء دمشقية» (العنوان الفرعي لـ«الرواية المستحيلة»). أمّا الفصول فتسميها «محاولات»، لتنطلق الأحداث من المحاولة السادسة بعدما تضمّن الجزء الأول من الرواية خمس محاولات.
أسلوب العرض الذي تنتهجه الكاتبة في تقديم المشهد الأول يشي بأنّ الأحداث ليست إلاّ تكملة لأحداث أخرى سبق أن حصلت في وقت سابق. افتتاحية تكشف عن لحظة متأججة في حياة زين، بطلة الرواية بجزءيها الأول والثاني. إنه مشهد نموذجي يتقلّص فيه الحدث لمصلحة التصوير النفسي: «يجب أن أنسلّ من السرير من دون أن يشعر بذلك. أن أرتدي ثيابي على عجل. أن أغادر البيت قبل أن يستيقظ ويتبعني ويستجوبني. هذه المرّة يجب ألاّ يعرف إلى أين أنا ذاهبة. لا هو ولا أي مخلوق آخر. عليّ الاحتفاظ بالسرّ حقاً لأنجح في إلقاء القبض على حياتي…» (ص11).
في يوم ميلادها الثامن عشر، تعتزم زين الخيّال بلوغ رشدها الحقيقي بالتخلّص من زوج حاربت أسرتها من أجله يوماً، ومن طفل لن ترضى له بأن يعيش بين أبوين منفصلين. الطلاق والإجهاض، قراران مرعبان تصرّ زين على تنفيذهما من غير أن تقلق بالها بعواقبهما. تتناسى زقاق الياسمين ببيوتاته المتقاربة كشفاهٍ متلاصقة. تتجاهل براكين غضب ستنصبّ عليها. تُفكّر فقط في أن تصوّب مسار حياتها، محلّقة مع بومتها «المفكرة» ومتسلحة بجملة واحدة: «أنا صخرة في قاسيون». الجملة ذاتها تردّدها زين على امتداد الرواية كأنها تعويذة تقوي بها إرادتها وتزيدها قوة وصلابة.
ومن محاولة إلى أخرى، يتبدّى للقارئ أنّ زين الخيّال هي فعلاً «صخرة»، تمردّت على ما اختارته (الزوج)، وما أحبّته (دمشق)، قبل أن تتمرّد على أي شيء آخر. لقد رفضت أن تدفع حياتها ثمناً لقرار خاطئ اتخذته في مرحلة ما، فكان قرار العدول عن الخطأ (الطلاق)، وفق مجتمعها، أكثر جرأة أو «وقاحة» من الخطأ نفسه (الحبّ): «لن أدع أحداً يسلبني حقي في الحرية. وحقي في الخطأ أيضاً. فالحب مغامرة، وما من بوليصة تأمين ضدّ الفشل. وأنا فشلت. أنا مجروحة ومخذولة وأعترف بذلك. وأحاول تصحيح غلطتي» (ص 98).
وما وجدته زين ارتقاءً، اعتبره الآخرون «سقطة» أعطتهم حق الشماتة بصبية جريئة، سبقت زمانها، فلم تعد مقبولة بين أهل «زقاق الياسمين»، خوفاً من تأثيرها في بناتهم. لكنّ أمراً لم يقف في درب الشابة الباحثة عن الحرية. وقد استطاعت بإرادتها أن تحوّل من قيود مجتمعها أجنحة تطير بها، فتحدّت عائلة ثم مجتمعاً ثمّ دولة تمثّل نظامها الفاسد بالملازم ناهي، صاحب الصلاحيات المطلقة. وهي حين رفضت الانصياع لرغباته الوضيعة مقابل ورقة السماح لها بدخول دمشق والخروج منها، صدر قرار السجن بحقها غيابياً. لكنّها واصلت المسير على درب الحرية، راضيةً بأن تخرج من فردوس الوطن عزيزةً على أن تبقى فيها ذليلة. وحينها فقط أطلقت صرختها المدوية: «يا دمشق وداعاً». وهي إذ تُغادر دمشق، لا تعود زين إليها حتى بعد أن يموت والدها وسندها في الحياة، أمجد الخيال. «ها أنا أخيراً أبكي وأطلق سراح دموعي مصحوبة باللعنات على من حرمني من الانحناء أمام قبر أبي…». هكذا تبدو زين الخيّال كأنها «أونتيغون» جديدة، تتحدّى نواميس المجتمع والدولة، راضيةً بمواجهة «هلاكٍ» أشبه ما يكون بفاتورة يُسدّدها المتمرّد للقدر. «لم أعد أبالي بالقيل والقال. سأكون وهذا كلّ شيء» (ص100).
حلم الكتابة
يحدث أحياناً أن يتماهى الأدب مع شخصية مبدعه إلى حدّ تذوب فيه الحواجز بين العمل وصاحبه، فتغدو الكتابة أشبه بالكشف أو البوح. هذا النوع من الكتابات غالباً ما يضع الناقد أمام تحدٍّ يجعله عاجزاً عن دراسة الكتاب بمعزل عن حياة صاحبه. وقد تُعد كتابات غادة السمّان من هذا النوع، وهذا إن دلّ فعلى شفافية هذه الأديبة التي تكتب بحبر القلب، فتغدو كلماتها مرآة روحها.
وفي رواية «يا دمشق وداعاً»، تتقاطع قصة زين الخيّال مع قصة غادة السمان نفسها، ما يدفع القارئ نحو سؤال جوهري عن الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال: هل هذه هي رواية زين المتخيلة أم أنها سيرة غادة الحقيقية؟ سؤال يظلّ حاضراً في ذهن القارئ، وإن كانت الكاتبة قد أوضحت في ما يُشبه التقديم أنّ كتابها هذا «من صُنع الخيال الروائي الخرافي فقط لا غير وأنّ أيّ تشابه مع أحياء أو أموات إنما هو من قبيل المصادفة». ولكن بعيداً عن التماثل البيّن بين زين (البطلة) وغادة (الكاتبة) في نشأتهما، يتمهما، تمردهما، لا يمكن أحداً أن يتجاهل تشابهاً جليّاً بين شخصيتي غزوان العائد، الشاب الفلسطيني الحالم، وغسان كنفاني، الكاتب والمناضل الفلسطيني المعروف. كلاهما يحمل المواصفات الجسدية والفكرية والثقافية نفسها. وليس من باب المصادفة أن تختار الكاتبة لبطلها اسم غزوان، وهو على وزن غسّان، مما يكرّس هذا التماثل بينهما.
زين وغزوان، وقبل أن يتبلور حبهما في بيروت، تتولّد بذور حبهما في «جنينة السبكي». غزوان أحبّ زين من النظرة الأولى، وهي انجذبت لوسامته وللغمازة الجميلة في ذقنه. صادفته في ذاك اليوم «المصيري»، إذ كانت خارجة لتوّها من عيادة الدكتور المناهلي منهكة القوى، فاتخذت من حديقة «السبكي» مكاناً قد تُعيد فيه لملمة جسدها المبعثر بعد فعل الإجهاض. أحبّ الفلسطيني الغريب هشاشة ذاك الجسد الأنثوي المتعب، إلاّ أنّ زين ظلّت تهرب منه، اعتقاداً منها بأنه الرجل الصحّ في التوقيت الخطأ، قبل أن تلتقيه مجدداً في بيروت لتعيش معه قصة حبّ «قدرية» لا مفرّ منها.
تُنقَل أحداث الرواية (202 صفحة) على لسان راوٍ عليم، تُقاطعه في كثير من الأحيان أصوات الشخصيات نفسها، لا سيما صوت البطلة، عبر خطاب مباشر منقول حرفياً بصيغة المتكلّم. وقد حُذف القوسان والنقطتان وفعل القول، واستُعيض عنها بخط عريض يُميّز كلام الشخصيات عن سرد الراوي.
تبدو البطلة منذ البداية، مسكونة بامرأة أخرى، لها صوت جهوري يطلع من داخلها مُسيطراً عليها بالكامل. إنه صوت كاتبة تُملي عليها كتابة متمردة لعلّها تٌحقق بذلك حلم الحرية. من هنا تصير الكتابة حركة متمّمة لثورة زين المبكرة، فتلحق بصوت تلك «المرأة الحاملة للقلم كبندقية». ومن ثمّ تلتحم بها إلى أن تصدر في دمشق مجموعتها القصصية الأولى، قبل أن تُطلّق مدينتها بعد الحكم عليها بالسجن غيابياً. فتنتقل الى بيروت، مدينة الثقافة والفكر آنذاك، حيث يلمع نجمها ككاتبة معروفة. تتداخل سيرة زين الخيّال بسيرة دمشق في خمسينات وستينات القرن الماضي. ومع اختلاف الظروف، إلاّ أنّ دمشق آنذاك كانت تمرّ أيضاً في فترة صعبة يصفها الراوي بالقول «إنّ ما يدور في دمشق اليوم يهدّ حيل الجبابرة الشوام القلقين على مصير بلدهم: هزيمة في فلسطين عام 1948، انقلابات عسكرية متتالية، وحدة فانفصال، انفصال آخر داخلي بين الناصرين والبعثيين…».
مثلما كان تمرّدها، في منتصف القرن العشرين، صفعة في وجه مجتمع شامي محافظ لا يؤمن بحريّة المرأة في تجاوز الحدود المرسومة لها سلفاً، كان تمرّد غادة السمان صفعة أخرى تلقّاها مجتمعها البرجوازي الذي لا يرضى للمرأة أن تكون عاملة ولا مطلقة. وقد تُشكّل رواية «يا دمشق وداعاً» صفعة جديدة توجهها الكاتبة إلى «برابرة» سورية الجدد ممّن يريدون للمرأة أن تعيش سجينة قمقم يحددون زواياه بقوائم ممنوعات تتكاثر يوماً بعد يوم تحت غطاء العُرف مرّة، والدين مرّات أخرى.